سواء
أكانت علة نشأة
المجتمع المدني -أو المجتمع الأهلي كما يُسمّى في المشرق- هي
التقابل مع المجتمع الديني أو مع الكنيسة في الغرب، أم كانت هي البحث عن تنظم
المواطنين خارج أجهزة الدولة الرسمية لتعديل سياساتها أو دعمها أو مقاومتها، فإن "تعريب"
هذا المفهوم -أي إدخاله إلى المجال العربي-، لم يختلف في شيء عن باقي الترسانة
المفاهيمية التي لا يختلف أغلب الباحثين في طابعها الإشكالي. فالمجتمع المدني لا
يختلف عن
الديمقراطية أو الحوكمة أو الإرادة العامة أو المصلحة الوطنية العليا، أو
الوطنية أو حقوق الإنسان أو الفصل بين السلطات، وغيرها من المفاهيم التي يمكن
الجزم بأنها مفاهيم "شَبهية" أقرب ما تكون إلى "كأنها هي"، ولكنها في الدول العربية ليست هي كما تُتداول في مجالها الأصلي.
ورغم
خصوصية التجربة
التونسية وتقدمها على عدة تجارب عربية مقارنة -خاصة بعد الثورة-، فإنها تثير إشكالات كثيرة تتصل بدور المجتمع المدني وعلاقته بالسلطة أو بالحقل
السياسي بصفة عامة، وعلاقته بالجهات المانحة والتدخلات الأجنبية المحتملة عبر
بوابة النشاط المدني في أشكاله الحقوقية والخدمية والنقابية والثقافية.
منذ
أن اتخذ الرئيس التونسي
قيس سعيد إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، وفعّل الفصل 80 من الدستور لإدارة حالة الاستثناء، كان واضحا أن السلطة تتجه إلى تنزيل مشروع
"التأسيس الثوري الجديد"، الذي بشّر به الرئيس خلال حملته الانتخابية، أو
ما أسماه بـ"الحملة التفسيرية".
رغم خصوصية التجربة التونسية وتقدمها على عدة تجارب عربية مقارنة -خاصة بعد الثورة- فإنها تثير إشكالات كثيرة تتصل بدور المجتمع المدني وعلاقته بالسلطة أو بالحقل السياسي بصفة عامة، وعلاقته بالجهات المانحة والتدخلات الأجنبية المحتملة عبر بوابة النشاط المدني في أشكاله الحقوقية والخدمية والنقابية والثقافية
وكان ذلك يعني تحويل وضعية
الاستثناء
إلى وضعية تأسيس للديمقراطية المجالسية أو المباشرة، التي لن تُنهيَ الحاجة إلى
الأجسام الوسيطة في المجتمع السياسي فقط (أي الأحزاب)، بل قد تؤذن بإنهاء الحاجة
إلى غيرها من الأجسام الوسيطة في المجتمع المدني، أو على الأقل ستعمل على إدخال
تغييرات جذرية على دور مكوّناته المختلفة لتتوافق مع النظام الجديد ومنطقه
السياسي. ولأسباب تتعلق ببؤس الوعي السياسي ومحدودة القدرة على التوقع المنطقي، واستشراف النتائج بناء على القراءة العقلانية للمقدمات، تداعت أغلب مكونات
"المجتمع المدني" لمساندة إجراءات الرئيس، وروجت للسردية السلطوية في
مواجهة "العشرية السوداء".
بحكم
خلفيتها اليسارية ومنطقها الشعبوي وموقفها السلبي من الديمقراطية التمثيلية أو
الليبرالية، كان واضحا أن سردية "تصحيح المسار" لم تكن مجرد مشروع
لاحتكار الإرادة الشعبية، أو تمثيل الشعب في المستوى السياسي فقط، بل هي مشروع لإنهاء
الحاجة إلى كل الوسائط المستقلة عن السلطة أو المناوئة لها، حتى عندما تتحرك بمنطق
المساندة النقدية. ورغم استفادة الجمعيات المدنية (ومنها النقابات ورابطة حقوق الإنسان
وجمعية الصحفيين والمنظمات النسوية وغيرها) مما تسميه "عشرية سوداء"،
فإنها سارعت إلى مساندة "تصحيح المسار" في استهداف الحقل السياسي -خاصة
استهداف حركة النهضة وحلفائها-، بل إن أغلبها الأعم من الجمعيات المدنية لم يتجاوز
حد الاحتجاج الخطابي، حتى عندما تعلق الأمر بضرب مؤسسات دستورية وغير دستورية؛ لأنها
كانت في تقديرها جزءا من تركة "العشرية السوداء".
بصرف
النظر عن تركيبة المجتمع المدني وعلاقته بورثة المنظومة القديمة وحلفائها
الإقليميين والدوليين، وبصرف النظر عن طابعه المؤدلج الذي جعل منه أحد أسباب فشل
الانتقال الديمقراطي وتكريس الصراعات الهوياتية، فإنه كان من أكبر المستفيدين مما
يسميه "العشرية السوداء" (تغوّل الاتحاد العام التونسي للشغل، تقدم تونس
في مؤشرات حرية الصحافة، تقنين جمعية شمس للمثليين، رفع الاحترازات عن اتفاقية
سيداو، حرية العمل الجمعياتي للمنظمات الموالية لما يسمى بـ"العائلة
الديمقراطية"، في مقابل تواصل التضييق على الجمعيات المدنية ذات الخلفية
الإسلامية، تضخم التمويلات والشراكات الخارجية، الهيمنة على المشهد الإعلامي.. إلخ). وهو واقع قننته تشريعات "العشرية السوداء" مثل المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرخ في 24 أيلول/ سبتمبر 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيات، والأمر عدد 5183 لسنة 2013 المؤرخ في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 والمتعلق بضبط معايير وإجراءات وشروط إسناد التمويل العمومي للجمعيات.
وسواء
أسمينا تلك الفترة بفترة الرفاه الديمقراطي أو فترة الفوضى الديمقراطية، وسواء
اعتبرنا مكاسب المجتمع المدني في تلك الفترة تجسيدا للحرية أو للفوضى والفساد، فإن
المجتمع المدني عرف في "العشرية السوداء" أزهى مراحله.
ومهما
كانت الإجابة التي قد تقدّمها مكوّنات المجتمع المدني لرفع هذا التناقض بين شيطنة
العشرية السابقة، وما كان لها فيها من مكاسب مادية ورمزية، يبدو أن السلطة لن
تنتظر هذه الإجابة للتحرك قصد فرض سلطة الدولة على المجتمع المدني، وما يخترقه من
تجاوزات حقيقية أو متخيلة. لقد اختار النظام الحاكم مراجعة التشريعات المنظمة
للعمل الجمعياتي لمواجهة ما يسميه بالفساد أو التآمر والعمالة أو الخيانة والتدخل
الأجنبي في الشأن التونسي. وآية ذلك هو اجتماع لجنة الحقوق والحريات في مجلس
النواب، للنظر في مقترح القانون الأساسي المتعلق بتنظيم الجمعيات "في كنف الدستور
ومبادئ القانون"، كما ورد في بيان أعضاء اللجنة. وفي هذا البيان، تنصيص على
قضيتين هما ما يبرر التعديلات المنتظرة من وجهة نظر السلطة: مواجهة المال الأجنبي
المشبوه، ووضع إطار رقابي يكفل احترام مبدأ الشفافية.
يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بادر بعض النواب بإيداع مقترح قانون أساسي يتعلق بتنظيم الجمعيات، ولأسباب تتعلق
بأشغال المجلس، تأجل النظر في المقترح إلى أيامنا هذه. ومنذ إعلانه، تعرض مقترح
النواب إلى انتقادات محلية وأجنبية كبيرة، وهي انتقادات مدارها الخوف من التضييق
على الحريات بتَونسة النموذج المصري المدجّن للعمل الجمعياتي، وهو ما ينذر بالعودة
إلى الفترة الدكتاتورية التي سبقت الثورة.
وبصرف
النظر عن التناقضات الداخلية التي تحكم هذا الموقف من جهة علاقته بالنظام القديم
(أغلب المنظمات المدنية، كانت أجساما وظيفية في خدمة النظام وشرعنة سياساته)، وبالنظام المصري (أغلب الجمعيات المدنية باركت انقلاب السيسي، واعتبرته "ثورة
تصحيحية" وإنقاذا للبلاد من الخطر "الإخواني")، وبصرف النظر عن
تبريرات النواب للمقترح من أنه سيؤكد استقلالية تونس وسيادتها، وسيتصدى لخطري تمويل
الإرهاب وتبييض الأموال، فإن الأمر الذي لا يمكن المجادلة فيه، هو أن مسألة التمويل
الأجنبي هي قضية تمس الأمن القومي التونسي، وهو ما لم تهتم به حركة النهضة
وحلفاؤها، فكان سببا من أسباب سقوطهم.
السلطة الحالية قد فهمت حقيقة دور المجتمع المدني سياسيا، خلال ما يُسمى بـ"العشرية السوداء"، ولذلك فإن تبرير مقترح المشروع بمواجهة التطرف أو التهرب الضريبي، هو مجرد ذريعة لتدجين المجتمع المدني وإرجاعه إلى مربع الولاء للسلطة أو المعارضة الشكلية، كما هو شأن العمل الجمعياتي قبل الثورة. وبحكم التوجه الشمولي للسلطة ورفضها لاستقلالية الأجسام الوسيطة في مختلف المجالات، فإن مقترح القانون الأساسي هو أمر منطقي ومنتظر.
ختاما،
فإن منطق السلطة لا يجانب الصواب من جهة الربط بين المانحين أو الممولين الأجانب
للأنشطة المدنية، واستراتيجيات التدخل في الشأن التونسي وتوجيه سياسات الدولة
وخياراتها الكبرى، كما أن مطلب الشفافية المالية هو مطلب مشروع بصرف النظر عن
غايات النظام الحاكم من طرحه. فالتمويل الأجنبي ليس عملا خيريا، وهو لا ينفصل عن
مصالح الدول، حتى عندما تضطلع به جمعيات مستقلة.
ولا
شك أن السلطة الحالية قد فهمت حقيقة دور المجتمع المدني سياسيا، خلال ما يُسمى بـ"العشرية
السوداء"، ولذلك فإن تبرير مقترح المشروع بمواجهة التطرف أو التهرب الضريبي، هو مجرد ذريعة لتدجين المجتمع المدني وإرجاعه إلى مربع الولاء للسلطة أو المعارضة
الشكلية، كما هو شأن العمل الجمعياتي قبل الثورة. وبحكم التوجه الشمولي للسلطة
ورفضها لاستقلالية الأجسام الوسيطة في مختلف المجالات، فإن مقترح القانون الأساسي
هو أمر منطقي ومنتظر.
تبدو
أهمية هذا المقترح سلطويا من الإصرار على طرحه، رغم ما يتعرض له النظام من انتقادات
في ملف الحريات الفردية والجماعية، ولكنّ الأهم من ذلك، هو طرح المقترح في مرحلة
قريبة من الانتخابات الرئاسية، وما يعنيه ذلك من صراع مع المجتمع المدني ورُعاته
الأجانب، سواء أكانوا دولا أم جمعيات. ومن المرجح عندنا أن الرئيس قيس سعيد لا يهتم
كثيرا بتداعيات تمرير هذا المقترح على شعبيته داخل الأوساط الحداثية المهيمنة على
النسيج الجمعياتي، وذلك راجع عندنا إلى تعويله على سردية السيادة الوطنية ورفض
التدخل الأجنبي، وهي سردية ما زالت تتمتع بمصداقية كبيرة عند عموم المواطنين، خاصة
عندما يتعلق الأمر بتمويل الجمعيات المدنية، وما تقوم به من أدوار مشبوهة في مستوى
الحقل السياسي، وفي مستوى تمرير الإملاءات التشريعية والخيارات القيمية للدول
المانحة.