(1)
ليست عندي طاقة للكتابة، لا
أقصد طاقة جسدية أو ذهنية وفقط، بقدر ما أهتم بذلك الحافز العظيم الذي كان يشجعني
على
الكتابة باعتبارها "قوة تغيير وتأثير". فبعدما رأينا ما يحدث -على
الهواء مباشرة- في
غزة وأخواتها من البلدات الفلسطينية، صارت الكتابة محض هراء في
معركة تحتاج لما هو أكثر من الكلام.. أصابتني غزة في الصميم، وصارت كل المقالات
القديمة (والمنتظرة) مجرد "شكاوى رومانسية" من الظلم واختلال القيم
والمعايير في النظام الدولي والإقليمي..
زاد على ذلك تدهور أحوالي
الصحية حتى دخلت في دوامة إغريقية صار
المرض فيها هو القدر الذي يحكم كل شيء في
برامجي ويومياتي.. الأطباء والمشافي ومواعيد الدواء ولعنة الأعراض الأجنبية،
وتعارضات الدواء، وذلك الوهن الذي يسرق طاقة الحياة من القلب والجسد فيجعل الإنسان
مجرد "جهاز تنفس"، ليس مطلوبا منه أكثر من دخول النفس وخروجه بسلام. ومع
الاستسلام لهذه الحالة تبدأ الحياة الطبيعية في التلاشي، ويتحول المريض إلى كائن
منغلق على نفسه، يقيس التحسن والتدهور بحسب حالته الخاصة ومؤشرات قياس النبض وضغط
الدم ونتائج التحاليل المخبرية..
بعدما رأينا ما يحدث -على الهواء مباشرة- في غزة وأخواتها من البلدات الفلسطينية، صارت الكتابة محض هراء في معركة تحتاج لما هو أكثر من الكلام.. أصابتني غزة في الصميم، وصارت كل المقالات القديمة (والمنتظرة) مجرد "شكاوى رومانسية" من الظلم واختلال القيم والمعايير في النظام الدولي والإقليمي..
(2)
لم أبتعد عن الكتابة بسبب
المرض، لكن الكتابة هي التي ابتعدت.. ربما لأنها بطبيعتها ضد كل أنواع المرض، وضد
حالات الوهن والاستسلام والانغلاق على الذات.. وفي الموعد الأسبوعي للمقال كنت
أشعر بالحنين يغمرني للكتابة، لكنني كنت أؤجل للأسبوع الذي يليه، حتى أستطيع استعادة
بعض التركيز والجلوس منتبها إلى الكرسي أمام جهاز الكومبيوتر، وتكررت متلازمة
"الحنين والتأجيل" شهورا طويلة كأنها عمرٌ من القحط، أو حكمٌ ظالم
بالاعتقال المفتوح دون سقف زمني، وكلما طال زمن الجدب زادت مساحات الظلام، وسيطرت
البرودة، وفرض التشوش ستائره على العين والذهن، وغلبت آهات الجسد المهزوم على
صرخات الواقع الدامي من حولنا..
وبين الحين والآخر، كنت أغالب
الحرس الشيطاني لحالة الاستسلام وأنظر إلى الواقع من نوافذ الروح، فأجد الأحوال
تزداد تدهورا، لكنني أجد أيضا الأمل يمتطي حمار "دون كيخوتة" ويحارب بكل
إخلاص، مرة تكون المعارك صائبة مع أعداء حقيقيين، ومرات تكون وهمية تخترع أعداء من
سراب، لكن الجميل أن الأمل لم يمت.. يظهر ويحارب ويواصل المعركة ليقول بلغة ناصعة
البيان: إن المعركة لن تنتهي بانتصارهم أبدا، ومهما اختلت موازين القوى، ومهما
ارتفت أعداد القتلى من فرسان الأمل، فإن بقاء واحد فقط منهم مقطوع الساقين وجسده
مثخن بالجراح، يعني أنه سيرفع كفه المتبقية شاهرا علامة النصر في وجوه الأعداء،
ومؤخرات المستسلمين من أبناء الملة والأوطان.
(3)
قبل أن تبتعد عني الكتابة كنت
أجهز لكتابة سلاسل متنوعة من المقالات، إحداها بعنوان "من الكاتب إلى الضابط..
الخيار ليس شمشون"، وسلسلة أخرى بعنوان "تأملات عميقة في يوميات
السجن"، وعندما ظهرت "جماعة
تكوين" راودتني رغبة في الاشتباك
الساخن، ومع استمرار حالة الوهن تحولت "الرغبة الساخنة" إلى مقال تاريخي
عقلاني بعنوان "الخطايا المؤسسة لجرائم التنوير في
مصر".
لكنني اليوم لا أعود لكتابة
أي مقال مؤجل منها، بل أعود لكي أكسر حالة الوهن.. أعود كي لا تبتعد عني الكتابة
أكثر.. أعود كي لا أموت صامتا في فراش بارد بحجة المرض، وبمناسبة السبب الأخير. أتذكر
أنني قلت لصديق كريم استضافني أياما في منزله الكريم، كأنه يخشى غيابي المفاجئ من
دون أن نتشارك لحظات الذكرى والحنين: "أرجوك لا تعاملني كمريض، فأنا أخجل من
نفسي كلما تحدثت عن مرضي بوصفه ذريعة تأجيل للحياة. وأتذكر العزيز عبد الوهاب المسيري
عندما كان مصابا بالسرطان في درجة متأخرة وينزل للمشاركة في حركة المطالبة
بالتغيير. المرض ليس مانعا منطقيا من لعن الظالمين والجهر بالحق والآذان بالجهاد
ضد كل المفسدين".
(4)
الخلاصة من كل ما تقدم، أنني
أعود اليوم لهدف أساسي هو كسر الحالة التي استدرجتني لكهوف العزلة والاختناق في
مواجع الذات، حتى صار الحياة التي عشت من أجلها طيلة عمري، مجرد "حياة
أخرى" لن تنفعني في مرضي ولن تفيدني في التخلص من آلامي الجسدية. وهذه مشاعر
معاكسة وخاطئة، لأن الأصل في رحلتي كان الاهتمام بمواجع الناس، وأمراض المجتمع من
حولي، وبالتالي فإن الحساب الصحيح للمواقف يقتضي أن أسأل دوما: ماذا قدمتُ للناس؟
وليس ماذا سيقدم الناس لي؟.. ماذا قدمت للمجتمع؟ وليس ماذا سينفعني المجتمع في
مشاكلي الشخصية؟
وهذا الحساب الأصلي والصحيح،
هو الذي شجعني على التحرر من أعباء المرض، وكسر أغلال الوهن من أجل عودة صائبة
للاتجاه الصحيح؛ مشاكل الناس قبل مشاكلي.. مرض المجتمع قبل مرضي.. أنا لست أهم من أحد،
ومصر ليست فوق الجميع، القضية المطروحة هي دائما الأولى بالاهتمام حسب خطورتها
وأعداد المرتبطين بها، وبالتالي فإن غزة اليوم أهم من مصر وأهم من السعودية وأهم
من قطر، وأهم من الصراع الجزائري المغربي على الصحراء، وأهم من الاحتراب السوداني
واليمني والصومالي، وأهم من مرضي ومرضك، وعجزي وعجزك..
هناك أمور عامة، لا يصح لنا
أن نحسبها أبدا بحسابات فردية وشخصية منغلقة، هذه هي خطيئة السيسي وأمثاله من
الحكام الذين يصفون البلادة العربية تجاه غزة بأنها "حكمة"، وحماية
لمقدرات بلادهم من صراع قد يؤثر على استقرارها -إن وجد- وعلى تنميتها الموهومة.
هكذا كان خطاب ملوك الطوائف
في الأندلس، الذين تركوا القوط يلتهمون الإمارات الإسلامية مدينة وراء مدينة،
بينما الأمراء المنكفئون على أفكارهم يتوهمون سلاما مع عدو يأكل إخوانهم، فلا
يفكرون أن الوحش الذي تعاونوا معه سوف ينتهي من إخوتهم لينفرد بهم ويفعل بهم أبشع
مما فعل في سابقيهم، لأن السابقين كان لديهم أمل في وجود محيط قد ينتفض ويعينهم ضد
الأعداء، بينما المتأخرون يوقنون أنهم صاروا آخر الفرائس ولا فرصة لديهم حتى لطلب
النجدة.
هناك أمور عامة، لا يصح لنا أن نحسبها أبدا بحسابات فردية وشخصية منغلقة، هذه هي خطيئة السيسي وأمثاله من الحكام الذين يصفون البلادة العربية تجاه غزة بأنها "حكمة"، وحماية لمقدرات بلادهم من صراع قد يؤثر على استقرارها -إن وجد- وعلى تنميتها الموهومة
(5)
أعرف أن هذا ليس مقالا عظيما أفتتح
به مرحلة العودة بعد غياب، وعذري أن الهدف هو العودة نفسها، وهو هدف كبير بالنسبة
لي، ولكل واحد فينا، لا يهم أن يتخذ أحدهم موقفا قويا في قضية ما، المهم هو الطريق
نفسه، لأنك قد تلتقي في موقف ما مع توفيق عكاشة أو عمرو أديب أو السيسي أو حتى
الحاخام الذي استشهدتُ بكلمته عن الفلسطيني الأخير الذي سيرفع علامة النصر طالما
بقي فيه نفس. الاتفاق في موقف خطأ مضلل يغرقنا في مستنقع الارتباك، أما
"العودة إلى الطريق" فهي القياس السليم والضامن للأداء النافع، حتى لو
اختلفنا في تقدير بعض المواقف..
لهذا أعود، ولهذا أعتبر أن
العودة خطوة صائبة بصرف النظر عن موضوع وجودة المقال..
سأنتظر نشر المقال بمشاعر
الشغف التي عشت عليها طويلا وافتقدتها قرابة العام، وأعدكم بتحسن الأداء مع كل
مباراة، المهم الآن أنني كسرت حالة الوهن والعجز وعدت إلى الملعب، فمن وقع منكم في
حالة كهذه فليكسرها ويعود.. اكسروها.. جميل أن تكسروها..
محبتي للجميع..
tamahi@hotmail.com