قضايا وآراء

تصحيح المسار في تونس.. بين انتظارات "العائلة الديمقراطية" ومشروع "التأسيس الجديد"

"الذين هيمنوا على الديمقراطية التمثيلية قد استخفوا بالرئيس بحكم افتقاده للحاضنة الحزبية وللتاريخ النضالي، وللدعم الصريح من الدولة العميقة- جيتي
عندما أطلق "الخبير الدستوري" قيس سعيد مشروعه السياسي سنة 2011 وأعاد طرحه سنة 2013 تحت عنوان "من أجل تأسيس جديد"، كان ذلك المشروع يتموضع في دائرة الخطابات السياسية الهامشية وغير الوازنة، أي في دائرة تلك البدائل التي اتخذت موقفا نقديا جذريا من مسار التأسيس وما سُمّي بـ"الانتقال الديمقراطي". ولأسباب تتعلق بمحدودية القاعدة الشعبية لهذا "البديل" الذي يتحرك بمنطق إعادة التأسيس من داخل الديمقراطية المباشرة أو المجالسية، فإنه قد احتاج إلى سنوات كي يكون جزءا من العرض السياسي القادر على منافسة الأجسام الوسيطة المسيطرة على الديمقراطية التمثيلية، ذلك أن فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا كان هو الشرط الضروري للدفع بالرئيس ومشروعه إلى واجهة المشهد السياسي.

رغم تصريح المرشح الرئاسي قيس سعيد خلال "الحملة التفسيرية" بأنه يطرح نفسه بديلا لا شريكا للنخب السياسية، فإن التلقي الجماعي لخطابه تعامل معه باعتباره رمزا للإصلاح من داخل الديمقراطية التمثيلية وحَكما ذا مصداقية بين الفرقاء السياسيين. وإذا كان من اليسير تبرير هذا البون الشاسع بين منطوق الخطاب السياسي وبين تلقيه لدى عموم المواطنين من ذوي الثقافة السياسية المحدودة، فإن المسألة تبقى مشكلةً عندما يتعلق الأمر بالنخب السياسية المؤدلجة وأحزابها.
لا يمكن أن نفهم دعم مختلف العائلات الأيديولوجية للسيد قيس سعيد -خاصة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية- إلا باعتباره تجسيدا لمحدوديتها في تقدير الموقف موضوعيا والاستشراف العقلاني للمشهد السياسي بعد دخول هذا الفاعل الجديد
فمشروع "الخبير الدستوري" قيس سعيد -كما هو مثبت في حوار له على موقع "الشارع المغاربي" قُبَيل الانتخابات الرئاسية- يقوم على "فكر سياسي جديد يُترجمه نص دستوري جديد بالفعل". ولا شك في أن القراءة الجدية لهذا الخطاب ستصل إلى أن تربع السيد قيس سعيد على كرسي الرئاسة سيؤدي بالضرورة إلى إعادة هندسة جذرية للمشهد السياسي؛ من منظور يؤمن بنهاية الديمقراطية التمثيلية وانتفاء الحاجة إلى أجسامها الوسيطة.

ونحن لا يمكن أن نفهم دعم مختلف العائلات الأيديولوجية للسيد قيس سعيد -خاصة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية- إلا باعتباره تجسيدا لمحدوديتها في تقدير الموقف موضوعيا والاستشراف العقلاني للمشهد السياسي بعد دخول هذا الفاعل الجديد. ولعل ما يُفسر ذلك هو أن أصحاب السرديات الكبرى الذين هيمنوا على الديمقراطية التمثيلية قد استخفوا بالرئيس بحكم افتقاده للحاضنة الحزبية وللتاريخ النضالي، وللدعم الصريح من الدولة العميقة أو ما يُسمّى بـ"منظومة الاستعمار الداخلي". ورغم وعينا بأن القياس لا يجوز إلا مع الفارق، فإن موقف النخب الحداثية من مشروع "التأسيس الجديد" لا يختلف عن موقفها من وجود المرحوم الباجي قائد السبسي على رأس الحكومة في المرحلة التأسيسية.

لقد قبلت كل العائلات السياسية بالمرحوم الباجي -رغم تاريخه المعروف في خدمة النظام السابق ورغم انتفاء أي علاقة له بالثورة واستحقاقاتها- لأنها قدّرت أنه مجرد وجود عابر ومؤقت وغير قادر على منافستها سياسيا. ولكنّ مسار الانتقال الديمقراطي أثبت تهافت هذا المنطق؛ بتحوّل المرحوم الباجي إلى أهم فاعل سياسي عند إنشاء "حركة نداء تونس" وفرض هيمنتها على المشهد السياسي بعد انتخابات 2014 في الرئاسة والبرلمان ورئاسة الحكومة. وقد كانت عودة ورثة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي إلى مركز الحكم مطلوبةً من لدن أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية"، باعتبارها تحجيما لحركة النهضة ومنفذا للمشاركة في صنع القرار بمنطق الشراكة السياسية والاجتماعية.

ولا شك عندنا في أن أغلب "الحداثيين" عندما دعّموا "تصحيح المسار" فإنهم قد أسقطوا على السيد قيس سعيد انتظاراتهم المجهضة في عهد المرحوم الباجي، ورأوا فيه فرصة لتحقيق ما تعذر تحقيقه دستوريا أو بمنطق الانقلاب في "العشرية السوداء".

إذا كان المرحوم الباجي قد حجّم حركة النهضة داخل أجهزة الدولة وواصل ابتزازها بملفّي الإرهاب والاغتيال السياسي، فإن منطق التوافق قد أبقاها فاعلا رئيسا في الحقل السياسي بشروط المنظومة القديمة. وكان يجب على هذه الهندسة السياسية -حسب انتظارات أغلب "الحداثيين"- أن تتغير بعد "تصحيح المسار"، أي بعد إعلان الرئيس عن حالة الاستثناء وتفعيل الفصل 80 من الدستور يوم 25 تموز/ يوليو 2021.
سردية مقاومة الفساد -بما يؤسسها من شيطنة لعشرية الانتقال الديمقراطي باعتبارها "عشرية سوداء"- لم تكن موجهة ضد حركة النهضة وحدها، بل ضد كل الأجسام الوسيطة بصرف النظر عن موقعها في الحكم أو في المعارضة
فالنخب "الحداثية" بمختلف مواقعها السياسية والنقابية والإعلامية والمدنية كانت تتمثل "تصحيح المسار" باعتباره تلك اللحظة التي يتم فيها إقصاء النهضة وحلفائها؛ دون المساس بالديمقراطية التمثيلية وبمصالح الأجسام الوسيطة "الحداثية" فيها. وهو ما يعني أن "مبدأ الرغبة" قد جعل تلك النخب ترى في الرئيس قيس سعيد شريكا جديدا لا بديلا يؤذن بإنهاء الحاجة إليها جميعا، ولكنّ الواقع أثبت أن هذا الفهم هو من باب أحلام اليقظة التي لا محصول تحتها.

بعد إعلان حالة الاستثناء، لم يستهدف الرئيس حركة النهضة في ذاتها -أي باعتبارها حزبا سياسيا ذا مرجعية إسلامية- بل باعتبارها مركز الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل، وهو أمر لم يفهمه أغلب من ينتسبون إلى "العائلة الديمقراطية". فسردية مقاومة الفساد -بما يؤسسها من شيطنة لعشرية الانتقال الديمقراطي باعتبارها "عشرية سوداء"- لم تكن موجهة ضد حركة النهضة وحدها، بل ضد كل الأجسام الوسيطة بصرف النظر عن موقعها في الحكم أو في المعارضة. ذلك أن الفساد هنا ليس فقط فساد الأجسام السياسية (الارتباط بالمال المشبوه وبالتمويل الأجنبي وتدليس الإرادة الشعبية) وفساد المحصول الاقتصادي (التفقير المُمنهج لأغلب الفئات والجهات وتزايد المديونية الداخلية والخارجية)، بل هو فساد التأسيس ذاته، أي فساد التوافقات التي كانت وراء دستور 2014. وهو فكر سياسي استوجب تحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية أو مرحلة تأسيس جديد؛ لا مكان فيها للشراكة مع أنصار تصحيح المسار، بل لا مكان فيها للا مركزية السلطة ولأي دور مستقل للأجسام الوسيطة.

لمواجهة هذا الواقع الجديد، لم يكن أمام الأجسام الوسيطة التي ناصرت "تصحيح المسار" إلا خياران: المعارضة الراديكالية، أو الموالاة بشكليها غير المشروط أو النقدي. ونحن نذهب إلى أن المعارضة الجذرية بعد المساندة تفتقد لأي مصداقية شعبية؛ بحكم غياب أي نقد ذاتي أو مراجعة عميقة لأسس الفكر السياسي الذي أنتج الموقف وضده. أما الموالاة بشكليها فهي -بحكم النظام الانتخابي الجديد- قبول بوضعية التابع المتذيل للسلطة دون أية مكاسب تتجاوز آحاد الأفراد من المنتسبين إلى بعض الأحزاب "الديمقراطية".

أثبتت عشرية الانتقال الديمقراطي وتصحيح المسار على حد سواء أن احتياجات النخبة للحرية وتشبعها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (وما يعنيه ذلك من مشروع للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة والاعتراف بالانقسام الاجتماعي والتعدد الثقافي وشرعية من يمثلهما)؛ هي مجرد شعارات مضلّلة لا محصول تحتها إلا التنافس في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي والتنكر لانتظارات المقهورين والمهمشين منذ بناء ما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية"

ونحن هنا أمام مفارقة لا يفهم الموالون أنها مفارقة مؤقتة، فالأحزاب التي تقبل بالترشيحات الفردية لمنتسبيها هي ظاهرة مؤقتة وسينتهي دورها بانتفاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، كما هو متوقع في الفلسفة السياسية للتأسيس الجديد.

سواء أكان الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي مجرد بديل من بدائل المنظومة القديمة لكسب شرعية مستأنفة أم كان مشروعا مستقلا فرض نفسه على المنظومة فإن الواقع قد أثبت أن حسابات "العقل الديمقراطي" وتوقعاته هي مظهر من مظاهر أزمة العقل الحداثي التونسي مثلها في ذلك كمثل العقل السياسي التوافقي لحركة النهضة. فإذا كانت النهضة قد توافقت مع ورثة المنظومة القديمة بشروطهم وضد انتظارات ناخبيها قبل غيرهم من عموم التونسيين حتى فقدت رأسمالها الرمزي المتمثل في "المظلومية"، فإن أغلب من يحتكرون صفة "الحداثة" قد أثبتوا هم أيضا -منذ رحيل المخلوع- أنهم مجرد أدوات في خدمة استراتيجيات الانقلابية على مشروع العيش المشترك والاحتكام للإرادة الشعبية، حتى فقدوا رأسمالهم الرمزي المتمثل في "الديمقراطية".

ختاما، لا شك في أنّ أداء مختلف النخب السياسية يمينا ويسارا يجعل من مراجعة "هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية" فيما يخص احتياجات النخبة؛ أمرا مؤكدا. فقد أثبتت عشرية الانتقال الديمقراطي وتصحيح المسار على حد سواء أن احتياجات النخبة للحرية وتشبعها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (وما يعنيه ذلك من مشروع للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة والاعتراف بالانقسام الاجتماعي والتعدد الثقافي وشرعية من يمثلهما)؛ هي مجرد شعارات مضلّلة لا محصول تحتها إلا التنافس في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي والتنكر لانتظارات المقهورين والمهمشين منذ بناء ما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية". وهو ما يجعلنا نرجّح -على الأقل في المدى المنظور- أن تبقى الأجسام الوسيطة مفتقدةً لتلك المصداقية الشعبية التي تجعلها قادرة على أن تكون بديلا للتأسيس الجديد، وذلك بصرف النظر عن محدودية إنجازات "تصحيح المسار" وشرعية الكثير من الانتقادات الموجّهة له.

x.com/adel_arabi21