منذ أن غادرت
أوروبا الأراضي التي احتلَّتها في آسيا وأفريقيا،
وسلمت قِيادَ القرار الدولي للولايات المتحدة الأمريكية، فإنها أرادت غسل تاريخها
الوحشي عبر رسم صورة الحريات والديمقراطية الأوروبية، كما فتحت أبوابها أمام
المضطهدين في بلادنا حتى وإن كانوا محسوبين على تيارات العنف المسلح وقتها، وكانت
التضييقات الأوروبية على المعارضين للأنظمة القمعية في بلادنا محدودة إلى حد كبير،
وكان ذائعا أن ترى من يُعَيِّر الإسلاميين الذين يهاجمون فساد وانحلال المجتمعات
الغربية، رغم مكوثهم في تلك البلاد التي يهاجمونها. لكن الأمر كقول أبي البقاء
الرندي:
وهذه
الدارُ لا تُبْقِي على أحدٍ ولا يَدُومُ
على حالٍ لَها شَانُ
فالأحوال
تتبدل وتتغير بحسب العوامل الداخلة عليها، ويبدو أن عوامل عديدة دخلت على الظرف
الدولي الذي استدعى تخفيف التواجد الأمريكي في بعض ما يتعلق بالمنطقة، وعودة
أوروبا لتمارس دورا ما في بعض الملفات.
بدأ
الدور الأمريكي في المنطقة يبرز مع العدوان الثلاثي على مصر نهاية تشرين الأول/ أكتوبر
عام 1956، فقد وجهت إنذارا إلى الدول المعتدية على مصر، لكن الأهم أن الإنذار توجه
إلى بريطانيا وفرنسا اللتين حكمتا المنطقة لعقود طويلة، وقَبِلت الدولتان الإنذار
وانسحبتا من مصر. لكن الدور الأمريكي العلني كان مقترنا بأدوار في الخفاء، لعل
أخطرها إقرار ولي العهد السعودي، بأن الحلفاء طالبوا دولته بنشر الوهابية لمنع
انتشار الاتحاد السوفييتي، فكان المذهب الديني أداة سياسية تعمقت مع الوقت في
مواجهة الإيرانيين، ومؤخرا أصبح أداة لمواجهة الحركات السياسية الإسلامية وعلى
رأسها الإخوان المسلمون.
كان الربيع العربي بمثابة صدمة للحكام الذين اعتمدوا على أمريكا تماما، ورأوا أنها جهة منح الشرعية لهم دون شعوبهم، ويبدو أن الأوروبيين شعروا بخطورة الانفراد الأمريكي بالقرار في المنطقة، كما أدرك الروس أهمية الفرصة لكسب مكانة في المنطقة مع بدء انحسار الدور الأمريكي
ثم
جاءت المرحلة الأبرز للدور الأمريكي عندما قَبِل عبد الناصر مبادرة روجرز التي
دخلت حيز التنفيذ في آب/ أغسطس 1969، وهي المبادرة التي تهدف إلى الاعتراف
بإسرائيل وعقد سلام بينها وبين الدول العربية، في مفاجأة كبرى للجماهير التي
استمعت إلى زعيم الهزائم وهو يهدد الاحتلال ويتوعده طوال سنوات حكمه البائس.
لم
تمض أربع سنوات حتى بدأت مصر معركة التحرير، وبينما كانت المعارك مشتعلة على
الجبهة ببسالة وتضحية ونقاء الجيش المصري وقتها، إلى جانب الجيوش والحكومات
العربية الداعمة للمعركة المصرية، كان السادات يتفاوض منذ اليوم الأول عبر قناة
سرية مع كيسنجر الداعم لإسرائيل قبل أي شيء، بحسب رواية وزير الخارجية وقتها
إسماعيل فهمي، وبعدها أطلق تصريحه الشهير: "99 في المئة من أوراق اللعبة بيد
أمريكا".
تسارعت
وتيرة التدخلات الأمريكية وترسيخ مكانة الولايات المحتدة كلاعب دولي وحيد في
المنطقة عبر كامب ديفيد، ورعايتها لكل عمليات الهندسة الداخلية للمنطقة، ثم انتقلت
إلى التدخلات الخشنة في عاصفة الصحراء مطلع تسعينيات القرن الماضي، التي حازت
بعدها قواعد عسكرية في منابع النفط في المنطقة، واحتكارها -تقريبا- لتسليح جيوش
المنطقة وتدريبها، وتحولت إلى قِبْلَة الحكام العرب.
طالبت
الولايات المتحدة حكام المنطقة على خلفية هجمات أيلول/ سبتمبر 2001 بزيادة مساحة
الديمقراطية في بلادهم وضغطت لأجل ذلك بشدة، فكانت النتيجة وصول الإخوان إلى أكبر
نسبة برلمانية في تاريخها في مصر، ووصول حماس إلى حكم فلسطين، ثم الربيع العربي
الذي أطاح بمنظومة الحكم الممتدة من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى 2011.
كان الربيع العربي بمثابة صدمة للحكام الذين اعتمدوا على
أمريكا تماما، ورأوا أنها جهة منح الشرعية لهم دون شعوبهم، ويبدو أن الأوروبيين
شعروا بخطورة الانفراد الأمريكي بالقرار في المنطقة، كما أدرك الروس أهمية الفرصة
لكسب مكانة في المنطقة مع بدء انحسار الدور الأمريكي والحاجة إلى ملء الفراغ.
التدخل الغربي في المنطقة عاد بها إلى مربعها الأول، إذ اعتمدت أوروبا على تعزيز الحكم الاستبدادي بمنحه الغطاء السياسي، واستجابته للرِّشى التعاقدية سواء في السلاح أو البنية التحتية، أو تقديم المنح أو تسهيل القروض، وما إلى ذلك. وهذه الحالة التي أدت إلى تنامي حالة السخط في مجتمعاتنا ضد أمريكا، ولم تفهمها إلا بعد 2001 واحتلال العراق 2003
وكان القرار الأوروبي بفرض حظر طيران على ليبيا خلال
الثورة، والمشاركة في عمليات قصف، مؤشرا على الدور الأوروبي المتزايد، خاصة أن
أوروبا تحتاج إلى النفط الليبي، ثم دخلت روسيا إلى ليبيا أيضا عبر فاغنر، ثم دخلت
سوريا لتضع مكانا لها مرة أخرى في
الشرق الأوسط. ومع تزايد الانشغال الأمريكي
بالشؤون الداخلية، والمنافسة الاقتصادية العالمية، والصعود الصيني والروسي، تأثرت
الكفاءة الأمريكية في إدارة جميع الملفات، فانتبه الجميع بمن فيهم الأمريكان إلى
عدم إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة وحدها لإدارة الشأن العالمي.
المثير
للانتباه أن التدخل الغربي في المنطقة عاد بها إلى مربعها الأول، إذ اعتمدت أوروبا
على تعزيز الحكم
الاستبدادي بمنحه الغطاء السياسي، واستجابته للرِّشى التعاقدية
سواء في السلاح أو البنية التحتية، أو تقديم المنح أو تسهيل القروض، وما إلى ذلك.
وهذه الحالة التي أدت إلى تنامي حالة السخط في مجتمعاتنا ضد أمريكا، ولم تفهمها
إلا بعد 2001 واحتلال العراق 2003، فبدأت بتوجيه ضغطها على الحكام، لكن أوروبا
بدأت تعيد اختراع العجلة من جديد (Reinventing the
wheel).
نتج
عن تعزيز الحكم الاستبدادي ضيق آفاق التنمية أمام غير المشتغلين بالسياسة، وانسداد
الأفق أمام المشتغلين بها، إذ لا يعتني المستبد سوى بترسيخ حكمه وإرضاء الجماعات
المحيطة به، دون النظر إلى تطلعات واحتياجات المحكومين، فبدأت موجات النزوح من
سوريا وليبيا واليمن أولا، ثم من مصر وشمال أفريقيا، وبالطبع من الدول الأفريقية غير
العربية التي لا تزال تعاني من آثار الحكم الاستعماري وتحكمه في مقدرات بلادهم،
فخرج النازحون من "أدغال" أوطانهم إلى "الحديقة الأوروبية".
ردت
أوروبا أولا بغلق الحدود ووقف الهجرة عند الحدود التركية، بشكل رئيسي، مع دفع
مقابلٍ لتلك الخدمة، واستخدمتها تركيا ورقة مساومة أيضا، واستضافت بعض الدول
الأوروبية عشرات الآلاف من السوريين مقابل الملايين الذين توزعوا في لبنان وتركيا
وبصورة أقل مصر.
إذا،
بدأت أوروبا بغلق حدودها، ثم انتقلت إلى مرحلة أخرى بالتوغل في المنطقة، عبر ما
يُسمى "تمديد الحدود الأوروبية"، وقامت عملية التمديد على تدريب وتسليح
وتمويل قوات حرس الحدود في مصر وليبيا وشمال أفريقيا، لمنع قوارب الهجرة غير
النظامية، ثم توازى مع تمديد الحدود تعزيز الاستبداد بشكل أكثر مباشرة عبر
"اتفاقيات شراكة إستراتيجية"، تأتي ملفات قمع الهجرة غير النظامية غاية
لها، لكنها تمتزج باتفاقيات اقتصادية وتجارية كبيرة تُنعش الكراسي الحاكمة التي
تكاد تتهاوى بسبب سوء إدارتها.
ما يعنينا من العودة الأوروبية للمشاركة في رسم سياسات المنطقة، أنها أصبحت طرفا أساسيا ومشاركا في تمويل الاستبداد ومنحه الغطاء السياسي له، وهي تهمة لا تقل سوءا عن تمويل ما يُسمى "الإرهاب"، أو تهمة الترويج له والدفاع عنه، إذ إن الأنظمة العربية ما تزال مدركة أنها بحاجة إلى أوروبا وأمريكا وروسيا في البقاء على كراسي الحكم، وهذا بحسب تحالف كل نظام سياسي مع هذه الأطراف
المفارقة
أن الدول المستفيدة من السخاء الأوروبي، غير المعتاد، تقوم بمساومتها بتلك الورقة،
فعندما تُناقش أوروبا ملفات حقوق الإنسان، وهي مناقشة صورية، تفتح تلك الدول
بحارها للمهاجرين لتلزم أوروبا حدَّها وتتوقف عن المناقشات العلنية التي تزعج
الحكام، وفهمت أوروبا الرسالة جيدا وبدأت تتعامل على هذا الأساس، لكنها كذلك
تُعزِّز مكانتها في المنطقة عبر تلك الاتفاقيات واتفاقيات التسليح، فملأت جزءا من
الفراغ الأمريكي، بتناغم كبير بين الأطراف المعنية بالتواجد الأوروبي؛ أمريكا ودول
الإقليم وأوروبا.
ما
يعنينا من العودة الأوروبية للمشاركة في رسم سياسات المنطقة، أنها أصبحت طرفا
أساسيا ومشاركا في تمويل الاستبداد ومنحه الغطاء السياسي له، وهي تهمة لا تقل سوءا
عن تمويل ما يُسمى "الإرهاب"، أو تهمة الترويج له والدفاع عنه، إذ إن
الأنظمة العربية ما تزال مدركة أنها بحاجة إلى أوروبا وأمريكا وروسيا في البقاء
على كراسي الحكم، وهذا بحسب تحالف كل نظام سياسي مع هذه الأطراف، وربما نجد الصين
قريبا راعية لأحد النظم القريبة من المنطقة كمرحلة أولى. والقصد أن أوروبا
والولايات المتحدة تحديدا يُشاركان في تمويل وتعزيز الاستبداد وما يتصل به من
انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
من
هنا، ربما صار من الواجب علينا أن نتعامل مع ذلك الوضع بصورة أكثر جرأة، ونذهب إلى
شكاية أمريكا والدول الأوروبية التي تعزز الاستبداد وتعقد شراكات معه في الهيئات
الدولية بتُهم: "انتهاك القانون الدولي، وحقوق الإنسان"، فتوجَّه إلى
تلك الدول التهمُ نفسها التي توجَّه إلى النظم الاستبدادية، باعتبارهم يوفرون دعما
ماليا وغطاء سياسيا، لننقل معركتنا ضد الاستبداد إلى فضاء أرحب وأوسع، ونضع الجناة
الأساسيين والمستترين أمام الجميع دون دِثَارٍ يسترهم.