لا أكون مغاليا حين أقول إننا نحتاج إلى هجرة جديدة، نحتاج
هجرة نجتاز بها حدود المأساة التي تعيشها أمتنا ونتجاوز بها حالة الوحل الثقافي
والسياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تمسك بخناقنا وتدفعنا دوما إلى أن نتحاور
بالنار بدل الكلمة، ونمزق إطارنا ونقطع بأيدينا كل روابط الأخوّة والأصل الواحد
واللغة الواحدة والدين الواحد.
لا أتجاوز حدود الواقع المر حين أقرر وأعترف بأن الليل
قد طال، وأن صبح
العرب والمسلمين الذي كاد أن يشرق يوما ما مزهوا بميلاده قد مزقوه
بأيديهم، حين تخلى بعضهم عن بعض، وحين أسلم الأخ أخاه لعدو يفترسه، بل وحين تعدى
بعضهم على بعض بالاحتلال والعدوان والحروب.
لا أتجاوز الحد أيضا حين أعترف صارخا بأن الظلام الأسود
قد لف بالفعل كل بقعة في ديار
المسلمين، لدرجة حولتهم إلى غثاء كغثاء السيل لا
يصلح شيئا حتى ولا حتى حطبا للنار.
تلك مأساة من باب الصدق مع النفس لا بد من الاعتراف بها،
والاعتراف وإن كان سيد الأدلة في لغة القانون، إلا أنه وحده هنا لا يعالج موقفا، ولا يهدي حائرا، بل
هو فقط يحاول تشخيص الداء وعلى أصحاب القرار وأصحاب العقول من ذوي الاختصاص وأهل
الخبرة أن يصفوا الدواء وأن يجدّوا في طلب الشفاء، وعلى جمهور الأمة المريضة أن
يلتزموا بما يحدده لهم دينهم، وأن يقفوا عنده لا يتعدونه ولا يتخطونه ولا يتحدونه،
وإلا فالويل للجميع من طوفان المأساة حين يعم، فلا يفرق بين صالح وطالح، ولا يفرق
بين من يسكت على الباطل ولو مرة، ومن يسكت عليه في كل مرة.
التغافل عن الجرح الغائر في قلب أمتنا لا يلبث أن يترك ليهدد الجسد بالفناء وأن يوقف القلب عن النبض والخفقان، فنحن لا نلجأ إلى منهجنا وتاريخنا إلا عند حلول الكارثة ونزول الهزائم والانكسارات، عندها فقط نرتدي ثوب التدين ونرفع شعار العدل والتقوى
هذه بداية أظن البعض لا
يستسيغها في مناسبة كهذه يحاول الناس فيها أن يلوذوا بموقع مشرق في تاريخ أمتهم، يهون
عليهم مأساة الواقع وضياع المستقبل، فما يجوز لأحد أن يعكر بالنظر المتشائم صفو
ليلتهم.
وأصدقكم القول أعزائي وسيداتي
وسادتي؛ أن هذا الشعور نفسه أحد وجوه المأساة وهو جزء منها، لأنه من ناحية أولى
هروب من المواجهة ولو على مساحة الشعور والوجدان والفكر، فما ضاعت أمتنا إلا يوم
أن قال الصغير للكبير تزلفا أو تملقا: كل شيء يا سيدي على ما يرام، وكل شيء تمام
التمام، وصدّق الكبير أن كل شيء على ما يرام وأن كل شيء تمام التمام، وبالطبع لم
يكن هنالك شيء على ما يرام، كما لم يكن هنالك شيء تمام التمام.
وهذه أولى مظاهر المأساة في
حياة أمتنا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن التغافل عن الجرح الغائر في قلب أمتنا
لا يلبث أن يترك ليهدد الجسد بالفناء وأن يوقف القلب عن النبض والخفقان، فنحن لا
نلجأ إلى منهجنا وتاريخنا إلا عند حلول الكارثة ونزول الهزائم والانكسارات، عندها
فقط نرتدي ثوب التدين ونرفع شعار العدل والتقوى، وننادي في الناس حي على الجهاد. وهيهات
هيهات أن ينطوي هذا الزيف والخداع على الله أو حتى على عاقل من البشر، "يخادعون
الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون".
أيها السيد والسيدات والسادة،
بعد اكتمال عناصر
الهجرة في الزمن والأحداث والرجال تكوّن التاريخ وبدأت قسمات
بطولة الرجال الذين رباهم المنهج مضيئة مشرقة على أيامه ولياليه، ثم دار الزمن
وتحول وخلف من بعدهم خلف حولوا التاريخ بمقوماته ومكوناته وعناصره إلى مجرد قصص
ميت يحكى بين المقهورين والمخدوعين، في كلمات فقدت مضمونها وفحواها.
وإذا كانت الكلمة لا يستهان بها،
لأنها تخلق موقفا، وتحدد دورا، وتشكل ضغطا، وتعدل سلوكا، وإذا كان النحويون من أهل
اللغة قد عرفوا الكلام بأنه ما تركب من كلمتين فأكثر وأفاد معنى أن يحسن السقوط
عليه، فإن كلاما كثيرا في هذه المناسبات -وإن تركب من أكثر من كلمتين إلا أنه يفيد
معاني لا يحسن السكوت عليها، ذلك لأنها كلمات تخرج بتشنج واحتقان، بواعثها انفعالات
وقتية أشبه ما تكون بفقاعات الهواء تنفصل عن الفعل وتفتقد التخطيط والبرمجة
والنظام، وتميل إلى هرج المظاهرات والمهرجانات دون أن يكون فيها جديد مبتكر.
نجتمع وننفض، نتلاقى ونفترق، نتفق
ونختلف، وكل ذلك في إطار الترديد لشعارات فكرية تعيش في الذاكرة دون أن يكون لها
في الواقع وجود محسوس، ودون أن تبدو منا جميعا حركة عمل إيجابي تسهم في تطبيق
الفكرة وتنقلها من عالم الشعور والوجدان ليكون لها حضور في واقع الناس العلمي
والعمل معا، وتلك حالة أقرب إلى المرض منها إلى الصحة والعافية، لأنها تجعل صاحبها
يدمن حالة اللا مسؤولية وحالة الغيبوبة، ويعيش في عزلة حضارية طال ليلها وطال
نومها، فهل يا ترى ستمر ذكرى الهجرة مجرد دروس في المسجد بغير عمل؟
ألم أقل لكم أيها السادة
والسيدات إننا نحتاج إلى هجرة جديدة! نحتاج إلى هجرة من حالة إلى حالة، فليست
الهجرة مجرد انتقال من مكان إلى مكان، وإنما الهجرة انتقال من شعور إلى شعور، ومن
حالة إلى حالة، فإذا سافرت ومعك مرض السلبية والفوضى والهم، فأنت مقيم لم تبرح.
فليست الهجرة مجرد انتقال من مكان إلى مكان، وإنما الهجرة انتقال من شعور إلى شعور، ومن حالة إلى حالة، فإذا سافرت ومعك مرض السلبية والفوضى والهم، فأنت مقيم لم تبرح
إننا نحتاج سيداتي وسادتي إلى
هجرة جديدة نحتاج هجرة نهاجر بها من الفوضى إلى النظام، ومن الكسل إلى العمل
الدؤوب والكفاح الراقي، ومن العيش عالة على غيرنا إلى حياة الاعتماد على الذات.
نحتاج هجرة تنتقل بنا من حالة
التشرذم والتمزق إلى حالة الوحدة والاتحاد.. نحتاج أن نهاجر من حالة الوحل الثقافي
والفكري التي تسيطر على إنساننا العربي والمسلم؛ إلى حالة التألق والإشراق بنور
النبوة وربانية القرآن.
نحتاج إلى هجرة تحيي في النفوس
ضمير الإيمان الذي يحرس الفرد والمجتمع، ويجعل الجميع يعيشون في جو من الإحساس
بالثقة والأمان ومراقبة الله.
نحتاج إلى هجرة تنتقل بنا من
حالة اللامسؤولية واللامبالاة واللاأخلاق؛ إلى حالة من الشعور بالواجب وأداء
الأمانة والإحساس المرهف والخلق الكريم.
نحتاج إلى هجرة تنتقل بنا
وننتقل معها من حالة التخلف والعجز المذل؛ إلى حالة من إعمال العقل وبذل الجهد
والحياة في ظل الكرامة الإنسانية.
نحتاج هجرة تجعل كلا منا يشعر
بهموم الآخرين، فيهب لدفع الأذى عنهم وإدخال السرور عليهم، ويقلم باستمرار أظافر
المعتدين الظالمين ويضرب على أيديهم ويسحق كل جبار عنيد.
نحتاج إلى هجرة تنتقل بإنساننا
من ردود الأفعال إلى الأفعال، ومن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب الحاضر، ومن فقدان
الإحساس إلى الوعي بمرارة الواقع واستخلاص العبر.
نحتاج إلى هجرة تعي أحداث
التاريخ ولا تعترف بحدود الجغرافيا ولا بنقاط التفتيش شعارها الدائم: "إن هذه
أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون".
نحتاج إلى هجرة توحد بين
المناهج وتوحد التعليم وتوحد بين المشاعر والأحاسيس وتوحد المسلمين جميعا؛ حين
تتوحد قلوبهم بتوحيد الله الواحد والعبودية له دون سواه، ساعتها وصدقوني، ساعتها
أيها السادة والسيدات ستسد الفجوة بين قصور الواقع وطموحات المنى، لأن الفجوة
نفسها قد سدت بين الكلمة والفعل، واتحدت في ذات الإنسان الفكرة والحركة.. ساعتها
سيتحول التخلف إلى وهم، والعجز إلى مجرد ذكرى، وستنتهي إلى غير رجعة دموع البؤساء
والمشردين والمقهورين والمطرودين من ديارهم، ولن يبقى من هذه الدموع حتى ولا
الرنين، ساعتها ستقذف أرحام الحياة من جديد بقادة الحياة وأبطال الوجود، ويلتقي
الرجال بالرجال، لأن أبعاد الزمن قد تلاشت، واستدار التاريخ كهيئته الأولى فالتقت
الهجرة بالهجرة والرجال بالرجال والإرادة بالإدارة.. وساعتها يبعث فينا من جديد
قلم الغزالي وشجاعة العز بن عبد السلام؛ ليضع حدا بقلمه وفكره بين الفكرة والفكرة ويواجه
كل فكرة بفكر والدليل بالدليل، ويرد عن دين الله وعن المسلمين تهمة الشراسة
والعدوان.
وساعتها يظهر سيف صلاح الدين ليقلم
أظافر الظالمين ويكسر شوكة الباطل المعتدي ويحيي في الناس إرادة الاختيار الحر،
فيعيش الإنسان مستقل الإرادة مستقل القرار. فهل يا ترى سيتغير الحال ويتبدل الواقع
المر بطموحات المنى، أم أن الهجرة تستمر مجرد عِبَر ودروس، لا تغير واقعا ولا تشخص
داء؟
"إن الله لا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والسلام عليكم ورحمة الله.