نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية
مقالا للمؤرخ والكاتب الأمريكي الإسرائيلي عمر باتروف، تحدث فيه عن زيارته مؤخرا للأراضي المحتلة والتغيرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي.
وقال باتروف في المقال الذي ترجمته "عربي21"، إن "هجوم حماس كان بمثابة صدمة هائلة للمجتمع الإسرائيلي، صدمة لم يبدأ المجتمع الإسرائيلي في التعافي منها، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها إسرائيل السيطرة على جزء من أراضيها لفترة طويلة من الزمن".
وأضاف "أن الرأي العام الإسرائيلي اعتاد منذ فترة طويلة على
الاحتلال الوحشي الذي ميّز البلاد منذ 57 عامًا من أصل 76 عامًا من وجودها. ولكن حجم ما يُرتكب في
غزة الآن على يد الجيش الإسرائيلي لم يسبق له مثيل، كما لم يسبق له مثيل في اللامبالاة التامة لمعظم الإسرائيليين لما يتم باسمهم".
وتابع: "لم أعد أؤمن بذلك. بحلول الوقت الذي سافرتُ فيه إلى "إسرائيل، كنتُ قد أصبحتُ مقتنعًا بأنه لم يعد من الممكن إنكار أن إسرائيل متورطة في جرائم حرب ممنهجة وجرائم ضد الإنسانية وأعمال
إبادة جماعية على الأقل منذ الهجوم الذي شنه الجيش الإسرائيلي على رفح في 6 أيار/ مايو 2024".
وأشار إلى أن "الهدف النهائي لهذه العملية برمتها منذ البداية هو جعل قطاع غزة بأكمله غير صالح للسكن، وإضعاف سكانه إلى درجة تجعلهم إما أن ينقرضوا أو يبحثوا عن كل الخيارات الممكنة للفرار من القطاع".
وفيما يلي نص المقال:
هذا الصيف احتج طلاب يمينيون متطرفون على إحدى محاضراتي، ولقد أعاد خطابهم إلى الأذهان بعضًا من أحلك اللحظات في تاريخ القرن العشرين، التي وتداخلت مع وجهات النظر الإسرائيلية السائدة إلى درجة صادمة.
في 19 حزيران/ يونيو 2024، كان من المقرر أن ألقي محاضرة في جامعة بن غوريون في النقب في بئر السبع بـ"إسرائيل". وكانت محاضرتي جزءًا من فعالية حول الاحتجاجات الجامعية العالمية ضد "إسرائيل"، وخططتُ أن أتناول الحرب في غزة، وبشكل أوسع مسألة ما إذا كانت الاحتجاجات تعبيرًا صادقًا عن الغضب أو بدافع معاداة السامية، كما ادعى البعض، لكن الأمور لم تسر كما هو مخطط لها.
عندما وصلتُ إلى مدخل قاعة المحاضرات، رأيت مجموعة من الطلاب متجمعين، وسرعان ما اتضح لي أنهم لم يكونوا هناك لحضور الفعالية بل للاحتجاج ضدها. ويبدو أن الطلاب قد تم استدعاؤهم من خلال رسالة على الواتساب انتشرت في اليوم السابق للمحاضرة ودعت إلى التحرك قائلة: "لن نسمح بذلك! إلى متى سنرتكب الخيانة في حق أنفسنا!".
ومضت الرسالة لتزعم أنني وقعتُ على عريضة وصفت "إسرائيل" بأنها "نظام فصل عنصري" (في الواقع، أشارت العريضة إلى نظام فصل عنصري في الضفة الغربية). كما "اتُّهمتُ" أيضًا بأنني كتبت مقالًا لصحيفة نيويورك تايمز في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ذكرتُ فيه أنه على الرغم من أن تصريحات القادة الإسرائيليين تشير إلى نية الإبادة الجماعية، فإنه لا يزال هناك وقت لمنع "إسرائيل" من ارتكاب الإبادة الجماعية.
وفي هذا الموضوع، لقد كنتُ مذنبًا. وبالمثل، تم انتقاد منظم الحدث، الجغرافي المتميز أورين يفتاحيل، والذي شملت جرائمه عمله كمدير لمنظمة بتسيلم "المناهضة للصهيونية"، وهي منظمة غير حكومية لحقوق الإنسان تحظى باحترام عالمي.
وبينما كان المشاركون في الندوة وحفنة من أعضاء هيئة التدريس ومعظمهم من كبار السن يتدفقون إلى القاعة، منع حراس الأمن الطلاب المحتجين من الدخول، لكنهم لم يمنعوهم من إبقاء باب قاعة المحاضرات مفتوحًا، منادين بشعاراتهم عبر مكبرات الصوت، وضربوا بكل قوتهم على الجدران.
بعد أكثر من ساعة من التعطيل، اتفقنا على أن أفضل خطوة للمضي قدمًا ربما تكون دعوة الطلاب المحتجين للانضمام إلينا لإجراء محادثة، بشرط أن يتوقفوا عن التعطيل، فدخل عدد لا بأس به من هؤلاء النشطاء في نهاية المطاف، وجلسنا على مدار الساعتين التاليتين وتحدثنا. وكما اتضح أن معظم هؤلاء الشباب والشابات كانوا قد عادوا مؤخرًا من الخدمة الاحتياطية التي كانوا قد انتشروا خلالها في قطاع غزة.
لم يكن هذا تبادلًا وديًّا أو "إيجابيًّا" لوجهات النظر، ولكنه كان كاشفًا، فلم يكن هؤلاء الطلاب يمثلون بالضرورة الجسم الطلابي في "إسرائيل" ككل، فقد كانوا نشطاء في منظمات يمينية متطرفة، لكن ما كانوا يقولونه كان يعكس من نواحٍ كثيرة شعورًا أكثر انتشارًا في البلاد.
لم أذهب إلى "إسرائيل" منذ حزيران/ يونيو 2023، وخلال هذه الزيارة الأخيرة وجدتٌ بلدًا مختلفًا عن البلد الذي عرفته. فعلى الرغم من أنني عملت في الخارج لسنوات عديدة، فإن "إسرائيل" هي المكان الذي ولدتُ وترعرعتُ فيه، وهي المكان الذي عاش فيه والداي ودفنا فيه، وهي المكان الذي أسس فيه ابني أسرته الخاصة ويعيش فيه معظم أصدقائي القدامى والمقربين. ومن خلال معرفتي للبلد من الداخل ومتابعتي للأحداث عن كثب أكثر من المعتاد منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لم أتفاجأ تمامًا بما واجهته عند عودتي، ولكن مع ذلك كان الأمر مزعجًا للغاية.
لا يسعني عند مناقشة هذه القضايا إلا أن أستند إلى خلفيتي الشخصية والمهنية، فلقد خدمت في الجيش الإسرائيلي لمدة أربع سنوات، وهي فترة شملت حرب يوم الغفران عام 1973، ومواقع في الضفة الغربية وشمال سيناء وغزة، وأنهيت خدمتي كقائد سرية مشاة.
خلال الفترة التي قضيتُها في غزة، رأيتُ بنفسي الفقر واليأس الذي يعاني منه اللاجئون الفلسطينيون الذين يعيشون في أحياء مزدحمة ومتهالكة. وأتذكر بشكل أكثر وضوحًا أنني كنت أقوم بدوريات في الشوارع الصامتة الخالية من الظلال في بلدة العريش المصرية – التي كانت تحتلها "إسرائيل" آنذاك – تخترقها نظرات السكان الخائفين والساخطين الذين يراقبوننا من نوافذهم المغلقة. وللمرة الأولى، فهمت معنى احتلال شعب آخر.
الخدمة العسكرية إلزامية لليهود الإسرائيليين عند بلوغهم سن 18 عامًا – على الرغم من وجود بعض الاستثناءات القليلة – ولكن بعد ذلك، يمكن استدعاؤك للخدمة العسكرية مرة أخرى في الجيش الإسرائيلي، سواءً للتدريب أو لأداء واجبات عملياتية، أو في حالات الطوارئ مثل الحرب.
عندما تم استدعائي في عام 1976، كنتُ طالبًا جامعيًا أدرس في جامعة تل أبيب. خلال ذلك الاستدعاء الأول كضابط احتياط، أصبت بجروح بالغة في حادث تدريب، إلى جانب عدد كبير من جنودي. وقد تستر الجيش الإسرائيلي على ملابسات هذا الحادث الذي كان سببه إهمال قائد قاعدة التدريب. وأمضيت معظم ذلك الفصل الدراسي الأول في مستشفى بئر السبع، لكنني عدتُ إلى دراستي، وتخرجتُ في عام 1979 بتخصص في التاريخ.
هذه التجارب الشخصية جعلتني أكثر اهتمامًا بسؤال طالما شغلني: ما الذي يحفز الجنود على القتال؟
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، جادل العديد من علماء الاجتماع الأمريكيين بأن الجنود يقاتلون أولاً وقبل كل شيء من أجل بعضهم البعض، وليس من أجل هدف أيديولوجي أكبر. لكن ذلك لم يتناسب تمامًا مع ما اختبرته كجندي: كنا نؤمن بأننا نقاتل من أجل قضية أكبر تتجاوز مجموعتنا الخاصة من الرفاق. وبحلول الوقت الذي أكملتُ فيه دراستي الجامعية، كنتُ قد بدأتُ أيضًا في التساؤل عما إذا كان من الممكن، باسم تلك القضية، إجبار الجنود على التصرف بطرق قد يجدونها مستهجنة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتبتُ أطروحتي للدكتوراه في جامعة أكسفورد، والتي نُشرتْ لاحقًا في شكل كتاب، عن التلقين النازي للجيش الألماني والجرائم التي ارتكبها على الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية. ما وجدتُه يتعارض مع الطريقة التي فهم بها الألمان في الثمانينيات ماضيهم، فقد كانوا يفضلون الاعتقاد بأن الجيش خاض حربًا "محترمة"، حتى عندما كان الجستابو وجهاز الأمن النازي يرتكبان الإبادة الجماعية "من وراء ظهره". واستغرق الألمان سنوات عديدة أخرى ليدركوا مدى تواطؤ آبائهم وأجدادهم في الهولوكوست والقتل الجماعي للعديد من الجماعات الأخرى في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي.
عندما اندلعتِ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو الانتفاضة، في أواخر عام 1987، كنت أُدرّس في جامعة تل أبيب، وقد روعتني تعليمات إسحق رابين، وزير الدفاع آنذاك، للجيش الإسرائيلي بـ"كسر أذرع وأرجل" الشباب الفلسطينيين الذين كانوا يرشقون الحجارة على القوات المدججة بالسلاح، فكتبتُ رسالة إليه محذّرًا من أنه استنادًا إلى بحثي في تلقين القوات المسلحة في ألمانيا النازية، خشيتُ أن يكون الجيش الإسرائيلي تحت قيادته يتجه إلى مسار زلق مماثل.
وأظهر بحثي أيضًا أنه حتى قبل التجنيد الإجباري، كان الشباب الألمان قد استوعبوا العناصر الأساسية للأيديولوجية النازية، وخاصةً الرأي القائل بأن الجماهير السلافية التي تعتبر دون البشر، وبقيادة اليهود البلشفيين الماكرين، كانوا يهددون ألمانيا وبقية العالم المتحضر بالدمار، وبالتالي كان من حق ألمانيا وواجبها أن تخلق لنفسها "مساحة معيشة" في الشرق وأن تقضي على سكان تلك المنطقة أو تستعبدهم، ثم تم غرس هذه الرؤية العالمية في كل القوات الألمانية، بحيث أنه بحلول الوقت الذي زحفوا فيه إلى الاتحاد السوفيتي كانوا ينظرون إلى أعدائهم من خلال هذا المنظور.
وأكدت المقاومة الشرسة التي أبداها الجيش الأحمر على ضرورة تدمير الجنود والمدنيين السوفييت على حد سواء، وخاصةً اليهود الذين كان يُنظر إليهم على أنهم المحرضون الرئيسيون على البلشفية، وكلما زاد الدمار الذي أحدثوه، زاد خوف القوات الألمانية من الانتقام الذي يمكن أن يتوقعوه إذا انتصر أعداؤهم، وكانت النتيجة قتل ما يصل إلى 30 مليون جندي ومواطن سوفيتي.
لدهشتي، بعد أيام قليلة من الكتابة إليه، تلقيتُ ردًا من رابين من سطر واحد من رابين، يوبخني على جرأتي في مقارنة الجيش الإسرائيلي بالجيش الألماني، وقد أتاح لي ذلك الفرصة لأكتب له رسالة أكثر تفصيلاً أشرح له فيها بحثي وقلقي من استخدام الجيش الإسرائيلي كأداة قمع ضد المدنيين العزل في المناطق المحتلة.
رد رابين مرة أخرى، بنفس العبارة: "كيف تجرؤ على مقارنة الجيش الإسرائيلي بالجيش الألماني". ولكن بالنظر إلى الوراء، أعتقد أن هذا الحوار كشف شيئًا ما عن رحلته الفكرية اللاحقة، فكما نعلم من مشاركته اللاحقة في عملية أوسلو للسلام، مهما كانت معيبة، فقد أدرك في نهاية المطاف أن "إسرائيل" لا تستطيع على المدى الطويل تحمل الثمن العسكري والسياسي والأخلاقي للاحتلال.
منذ عام 1989، أقوم بالتدريس في الولايات المتحدة، وقد كتبتُ بإسهاب عن الحرب والإبادة الجماعية والنازية ومعاداة السامية والهولوكوست، سعيًا لفهم الروابط بين "القتل الصناعي" للجنود في الحرب العالمية الأولى وإبادة السكان المدنيين على يد نظام هتلر.
من بين مشاريع أخرى، أمضيتُ سنوات عديدة في البحث في تحول بلدة والدتي – بوخاتش في بولندا (أوكرانيا حاليًا) – من مجتمع تعايش بين الأعراق إلى مجتمع انقلب فيه السكان غير اليهود ضد جيرانهم اليهود تحت الاحتلال النازي، ففي حين جاء الألمان إلى البلدة بهدف صريح هو قتل اليهود فيها، إلا أن سرعة القتل وفعاليته تم تسهيلها إلى حد كبير من خلال التعاون المحلي. وكان هؤلاء السكان المحليون مدفوعين بضغائن وأحقاد سابقة يمكن إرجاعها إلى صعود النزعة القومية العرقية في العقود السابقة، والرأي السائد بأن اليهود لا ينتمون إلى الدول القومية الجديدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى.
في الأشهر التي تلت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أصبح ما تعلمتُه على مدار حياتي ومسيرتي المهنية أكثر أهمية من أي وقت مضى. ومثل كثيرين غيري، وجدتُ هذه الأشهر الأخيرة مليئة بالتحديات العاطفية والفكرية. ومثل كثيرين آخرين، تأثر أفراد من عائلتي وعائلات أصدقائي بشكل مباشر بالعنف، فليس هناك ندرة في الحزن أينما اتجهت.
لقد كان هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بمثابة صدمة هائلة للمجتمع الإسرائيلي، صدمة لم يبدأ المجتمع الإسرائيلي في التعافي منها، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها "إسرائيل" السيطرة على جزء من أراضيها لفترة طويلة من الزمن، حيث لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من منع وقوع مذبحة راح ضحيتها أكثر من 1200 شخص – قُتل العديد منهم بأبشع الطرق التي يمكن تخيلها – وأخذ أكثر من 200 رهينة، بما في ذلك عشرات الأطفال. إن الشعور بالتخلي من قبل الدولة وانعدام الأمن المستمر – مع استمرار نزوح عشرات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين من منازلهم على طول قطاع غزة وعلى الحدود اللبنانية – هو شعور عميق.
واليوم، يسود شعوران في قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، بما في ذلك أولئك الذين يعارضون الحكومة، الأول هو مزيج من الغضب والخوف والرغبة في إعادة الأمن بأي ثمن وعدم الثقة الكاملة بالحلول السياسية والمفاوضات والمصالحة.
وأشار المنظّر العسكري كارل فون كلاوزفيتز إلى أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، وحذّر من أنه بدون هدف سياسي محدد ستؤدي إلى دمار لا حدود له. وبالمثل، فإن الشعور السائد الآن في "إسرائيل" يهدد بجعل الحرب غايةً في حد ذاتها. ومن وجهة النظر هذه، فإن السياسة هي عائق أمام تحقيق الأهداف وليس وسيلة للحد من الدمار. وهذه وجهة نظر لا يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى الفناء الذاتي.
أما الشعور الثاني السائد – أو بالأحرى انعدام الشعور – فهو الوجه الآخر للشعور الأول، وهو العجز التام للمجتمع الإسرائيلي اليوم عن الشعور بأي تعاطف مع سكان غزة، ويبدو أن الأغلبية لا ترغب حتى في معرفة ما يحدث في غزة، وتنعكس هذه الرغبة في التغطية التلفزيونية.
عادة ما تبدأ الأخبار التلفزيونية الإسرائيلية هذه الأيام بتقارير عن جنازات الجنود، الذين يوصفون دائمًا بالأبطال، الذين سقطوا في القتال في غزة، تليها تقديرات لعدد مقاتلي حماس الذين "تمت تصفيتهم".
أما الإشارات إلى القتلى من المدنيين الفلسطينيين فهي نادرة وعادة ما يتم تقديمها كجزء من دعاية العدو أو كسبب للضغط الدولي غير المرحب به. وفي مواجهة هذا العدد الكبير من القتلى، يبدو هذا الصمت المطبق الآن وكأنه شكل من أشكال الانتقام.
بالطبع، لقد اعتاد الرأي العام الإسرائيلي منذ فترة طويلة على الاحتلال الوحشي الذي ميّز البلاد منذ 57 عامًا من أصل 76 عامًا من وجودها. ولكن حجم ما يُرتكب في غزة الآن على يد الجيش الإسرائيلي لم يسبق له مثيل في حجم ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي في غزة الآن، كما لم يسبق له مثيل في اللامبالاة التامة لمعظم الإسرائيليين لما يتم باسمهم.
في عام 1982، احتج مئات الآلاف من الإسرائيليين على المذبحة التي ارتكبتها الميليشيات المسيحية المارونية في مخيمي صبرا وشاتيلا في غرب بيروت على يد الميليشيات المسيحية المارونية بتسهيل من الجيش الإسرائيلي.
اليوم، هذا النوع من الردود لا يمكن تصوره. إن الطريقة التي تدمع بها أعين الناس كلما ذكر المرء معاناة المدنيين الفلسطينيين، وموت الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، أمر مقلق للغاية.
عند لقائي بأصدقائي في "إسرائيل" هذه المرة، كثيرًا ما شعرت أنهم كانوا يخشون أن أزعجهم في أحزانهم، وأنني لا أستطيع فهم ألمهم وقلقهم وحيرتهم وعجزهم بسبب عيشي خارج البلاد.
أي إيحاء بأن العيش في البلد قد خدّرهم عن الشعور بألم الآخرين – الألم الذي كان، في النهاية، يُلحق بهم باسمهم – لم ينتج عنه سوى جدار من الصمت، أو الانكفاء على أنفسهم، أو تغيير سريع للموضوع.
كان الانطباع الذي خرجتُ به ثابتًا: لا مكان في قلوبنا، ولا مكان في أفكارنا، ولا نريد أن نتحدث أو أن نظهر ما يفعله جنودنا وأبناؤنا وأحفادنا وإخواننا وأخواتنا الآن في غزة. يجب أن نركز على أنفسنا، وعلى صدمتنا وخوفنا وغضبنا.
في مقابلة أُجريت في 7 آذار/ مارس 2024، عبّر الكاتب والمُزارع والعالم زئيف سميلانسكي عن هذا الشعور بالذات بطريقة وجدتها صادمة، تحديدًا لأنها صادرة عنه. أنا أعرف سميلانسكي منذ أكثر من نصف قرن، وهو ابن الكاتب الإسرائيلي الشهير س. يزهار الذي كانت روايته "خربة خيزه" الصادرة عام 1949 أول نص في الأدب الإسرائيلي يواجه ظلم النكبة، أي طرد 750 ألف فلسطيني مما أصبح دولة "إسرائيل" عام 1948.
وفي حديثه عن ابنه، أوفر، الذي يعيش في بروكسل، علّق سميلانسكي:
"يقول أوفر إن كل طفل بالنسبة له هو طفل، بغض النظر عما إذا كان في غزة أو هنا. أنا لا أشعر مثله. أطفالنا هنا أكثر أهمية بالنسبة لي. هناك كارثة إنسانية مروعة هناك، أتفهم ذلك، لكن قلبي مسدود وممتلئ بأطفالنا ورهائننا… لا يوجد مكان في قلبي لأطفال غزة، مهما كان الأمر صادمًا ومرعبًا، ورغم أنني أعرف أن الحرب ليست الحل.
أنا أستمع إلى ماعوز إينون الذي فقد والديه [اللذين قتلتهما حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر] … والذي يتحدث بشكل جميل ومقنع عن الحاجة إلى النظر إلى الأمام، وأننا بحاجة إلى جلب الأمل والرغبة في السلام، لأن الحروب لن تحقق أي شيء، وأنا أتفق معه. أتفق معه، ولكنني لا أستطيع أن أجد القوة في قلبي، مع كل ميولي اليسارية وحبي للإنسانية، لا أستطيع… ليست حماس وحدها، بل كل سكان غزة هم من يتفقون على أنه لا بأس بقتل الأطفال اليهود، وأن هذه قضية تستحق العناء… مع ألمانيا كانت هناك مصالحة، ولكنهم اعتذروا ودفعوا تعويضات، فماذا [سيحدث] هنا؟ نحن أيضًا فعلنا أشياء فظيعة، ولكن لا شيء يقترب مما حدث هنا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. سيكون من الضروري المصالحة ولكننا نحتاج إلى بعض المسافة".
كان هذا شعورًا سائدًا بين العديد من الأصدقاء والمعارف ذوي الميول اليسارية والليبرالية الذين تحدثت معهم في "إسرائيل"، وكان بالطبع مختلفًا تمامًا عما يقوله السياسيون اليمينيون والشخصيات الإعلامية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. فالعديد من أصدقائي يدركون ظلم الاحتلال، وكما قال سميلانسكي: "إنهم يعترفون بحبهم للإنسانية"، ولكن في هذه اللحظة، وفي ظل هذه الظروف، ليس هذا ما يركزون عليه.
بدلاً من ذلك، يشعرون أنه في الصراع بين العدالة والوجود، يجب أن ينتصر الوجود، وفي الصراع بين قضية عادلة وأخرى – قضية الإسرائيليين وقضية الفلسطينيين – يجب أن تنتصر قضيتنا نحن، مهما كان الثمن. بالنسبة لأولئك الذين يشككون في هذا الخيار الصارخ، يتم تقديم الهولوكوست كبديل، مهما كان غير ذي صلة باللحظة الراهنة.
لم يظهر هذا الشعور فجأة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فجذوره أعمق بكثير.
في 30 نيسان/ أبريل 1956، ألقى موشيه ديان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، خطابًا قصيرًا سيصبح واحدًا من أشهر الخطابات في تاريخ "إسرائيل"، حيث كان يخاطب المشيعين في جنازة روعي روتبرغ، ضابط الأمن الشاب في كيبوتس ناحال عوز الذي تأسس حديثًا، والذي أنشأه الجيش الإسرائيلي في عام 1951 وأصبح مجتمعًا مدنيًا بعد عامين، وكان الكيبوتس يقع على بعد بضع مئات الأمتار فقط من الحدود مع قطاع غزة، ويواجه حي الشجاعية الفلسطيني.
وكان روتبيرغ قد قُتل في اليوم السابق، وتم جر جثته عبر الحدود والتمثيل بجثته، قبل أن تتم إعادتها إلى أيدي الإسرائيليين بمساعدة الأمم المتحدة، ولقد أصبح خطاب ديان تصريحًا أيقونيًا يستخدمه اليمين واليسار السياسي حتى يومنا هذا: "قُتل روعي صباح أمس. مبهورًا بهدوء الصباح، لم يرَ أولئك الذين كانوا ينتظرونه في كمين على حافة الثلم. دعونا لا نلقي بالاتهامات على القتلة اليوم، لماذا نلومهم على كراهيتهم الملتهبة لنا؟ إنهم يسكنون منذ ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين في غزة، وقد حوّلنا أمام أعينهم الأرض والقرى التي سكنوها هم وأجدادهم إلى ملكنا الخاص.
لا ينبغي لنا أن نطلب دم رُوعي من العرب في غزة بل من أنفسنا. فكيف أغمضنا أعيننا ولم نواجه مصيرنا بصراحة، ولم نواجه مهمة جيلنا بكل قسوتها؟ هل نسينا أن هذه المجموعة من الفتيان التي تسكن في ناحال عوز تحمل على أكتافها بوابات غزة الثقيلة، التي تحتشد على جانبها الآخر مئات الآلاف من العيون والأيدي التي تترقب لحظة ضعفنا لتتمكن من تمزيقنا – هل نسينا ذلك؟
نحن جيل الاستيطان، فبدون الخوذة الفولاذية وفوهة المدفع لن نستطيع أن نزرع شجرة ونبني بيتًا. لن يكون لأطفالنا حياة إذا لم نحفر الملاجئ، وبدون الأسلاك الشائكة والمدافع الرشاشة لن نستطيع تعبيد الطرق وحفر آبار المياه. الملايين من اليهود الذين أُبيدوا لأنهم لا يملكون أرضًا يطلون علينا من رماد التاريخ الإسرائيلي ويأمروننا بالاستيطان وإحياء أرض لشعبنا. ولكن وراء ثلم الحدود، ينهض محيط من الحقد والرغبة في الانتقام، ينتظر اللحظة التي سيخفف فيها الهدوء من استعدادنا، لليوم الذي نستجيب فيه لسفراء النفاق المتآمرين الذين يدعوننا إلى إلقاء السلاح…
دعونا لا نتوانى عن رؤية الكراهة التي تصاحب وتملأ حياة مئات الألوف من العرب الذين يسكنون حولنا وينتظرون اللحظة التي يستطيعون فيها أن يمدوا أيديهم إلى دمائنا. دعونا لا نغض أبصارنا لئلا تضعف أيدينا. هذا هو قدر جيلنا. هذا هو خيار حياتنا، أن نكون مستعدين ومسلحين وأقوياء وصلبين، لأنه إذا سقط السيف من قبضة أيدينا، فإن حياتنا ستُقطع".
في اليوم التالي، سجل دايان خطابه للإذاعة الإسرائيلية. لكن شيئًا ما كان مفقودًا. فقد اختفت الإشارة إلى اللاجئين الذين كانوا يشاهدون اليهود وهم يزرعون الأراضي التي طُردوا منها، والذين لا ينبغي لومهم على كرههم لمن طردهم. على الرغم من أنه نطق بهذه الأبيات في الجنازة وكتبها بعد ذلك، فإن دايان اختار حذفها من النسخة المسجلة.
هو أيضًا كان يعرف هذه الأرض قبل عام 1948، وتذكر القرى والبلدات الفلسطينية التي تم تدميرها لإفساح المجال للمستوطنين اليهود. كان يتفهم بوضوح غضب اللاجئين عبر السياج، لكنه آمن أيضًا إيمانًا راسخًا بالحق والحاجة الملحة للاستيطان اليهودي وإقامة الدولة اليهودية. ففي الصراع بين التصدي للظلم والاستيلاء على الأرض، اختار جانبه، مدركًا أن ذلك يحكم على شعبه بالاعتماد على البندقية إلى الأبد.
كان ديان يعرف جيدًا أيضًا ما يمكن أن يقبله الجمهور الإسرائيلي، وبسبب ازدواجيته حول أين يكمن الذنب والمسؤولية عن الظلم والعنف، ونظرته الحتمية والمأساوية للتاريخ، انتهى الأمر بالنسختين من خطابه إلى جذب توجهات سياسية مختلفة إلى حد كبير.
وبعد عقود من الزمن، وبعد حروب أخرى كثيرة وأنهار من الدماء، عنون دايان كتابه الأخير "هل يُلتهم السيف إلى الأبد؟ ونُشر الكتاب في عام 1981، وتناول فيه بالتفصيل دوره في التوصل إلى اتفاقية سلام مع مصر قبل ذلك بعامين. وكان قد عرف أخيرًا حقيقة الجزء الثاني من الآية التوراتية التي أخذ منها عنوان الكتاب: "أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا مَرَارَةٌ فِي الْآخِرَةِ".
لكن في خطابه الذي ألقاه عام 1956، بإشاراته إلى حمل أبواب غزة الثقيلة وانتظار الفلسطينيين للحظة ضعف، كان دايان يلمح إلى قصة شمشون التوراتية. وكما يتذكر مستمعوه، كان شمشون الإسرائيلي، الذي كان يستمد قوته الخارقة من شعره الطويل، معتادًا على زيارة البغايا في غزة، وكان الفلسطينيون الذين كانوا يعتبرونه عدوهم اللدود يأملون أن ينصبوا له كمينًا على أبواب المدينة الموصدة.
لكن شمشون رفع ببساطة البوابات على كتفيه وسار حراً طليقاً ولم يتمكن الفلسطينيون من القبض عليه وسجنه إلا عندما خدعته عشيقته دليلة وقطعت شعره، مما جعله عاجزًا عن الحركة بفقء عينيه (كما يُزعم أن الغزاويين الذين شوهوا روعي فعلوا ذلك أيضًا). ولكن في عمل شجاع أخير من أعمال الشجاعة، وبينما كان آسروه يهزأون به، يدعو شمشون الله مستغيثًا به، ويستولي على أعمدة الهيكل الذي كان قد اقتيد إليه، ويهدمه على الجموع المرحة المحيطة به، وينادي "دعوني أموت مع الفلسطينيين!".
إن بوابات غزة تلك راسخة في المخيلة الإسرائيلية الصهيونية، وهي رمز للفصل بيننا وبين "البرابرة". أما في حالة روعي فقد أكد ديان أن "الشوق إلى السلام سدّ أذنيه، ولم يسمع صوت القتل الذي كان يتربص به. كانت أبواب غزة أثقلت كاهله وأسقطته".
في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، خاطب الرئيس يتسحاق هرتسوغ الجمهور الإسرائيلي، مستشهدًا بالسطر الأخير من خطاب دايان: "هذا هو مصير جيلنا. هذا هو خيار حياتنا – أن نكون مستعدين ومسلحين وأقوياء وصلبين. لأنه إذا سقط السيف من قبضة أيدينا، فإن حياتنا ستُقطع".
في اليوم السابق، بعد مرور 67 عامًا على مقتل روعي في اليوم السابق، قتل مقاتلو حماس 15 شخصًا من سكان كيبوتس ناحال عوز واحتجزوا ثمانية رهائن. ومنذ الاجتياح الإسرائيلي الانتقامي لغزة، تم إفراغ حي الشجاعية الفلسطيني المواجه للكيبوتس الذي كان يعيش فيه 100,000 شخص من سكانه وتحول إلى كومة كبيرة من الأنقاض.
واحدة من المحاولات الأدبية النادرة التي تكشف المنطق القاتم لحروب "إسرائيل" هي قصيدة عناد إلدان الاستثنائية التي كتبها عام 1971 بعنوان "شمشون يمزق ثيابه" والتي يحطم فيها هذا البطل العبري القديم طريقه إلى غزة ويخرج منها ولا يترك وراءه سوى الخراب. ويتحوّل شمشون البطل، والنبي، وقاهر عدو الأمة الأبدي إلى ملاك الموت، وهو الموت الذي، كما نتذكر، ينتهي به الأمر إلى جلبه على نفسه أيضًا في عمل انتحاري كبير ظل يتردد صداه عبر الأجيال حتى يومنا هذا:
عندما ذهبتُ
إلى غزة التقيتُ
خرج شمشون وهو يمزق ثيابه
وعلى وجهه المخدوش سالت الأنهار
وانحنت البيوت لتسمح له بالمرور
ليمر
واقتلعت آلامه الأشجار من جذورها وعلق في
الجذور المتشابكة
في الجذور كانت خيوط من
شعره
كان رأسه يلمع مثل جمجمة مصنوعة من الصخر
وخطواته المتعثرة مزقت دموعي
مشى شمشون يجر شمسًا مرهقة
حطم زجاج النوافذ والسلاسل في بحر غزة
غرقتُ سمعتُ كيف
كان أنين الأرض تحت خطواته
كيف شق أحشاءها
صرير حذاء شمشون عندما كان يمشي.
ولد إلدان في بولندا في عام 1924 باسم أفراهام بليبرغ، وجاء إلى فلسطين في طفولته، وقاتل في حرب 1948، وفي عام 1960 انتقل إلى كيبوتس بئيري، على بعد حوالي 4 كيلومترات من قطاع غزة. في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نجا إلدان البالغ من العمر 99 عامًا وزوجته من المذبحة التي راح ضحيتها نحو مئة من سكان الكيبوتس، عندما دخل المسلحون الذين دخلوا إلى منزلهم دون أن يلقوا حتفهم.
بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وفي أعقاب نجاة هذا الشاعر المغمور بأعجوبة من الموت، انتشر عمل مختلف له على وسائل الإعلام الإسرائيلية على نطاق واسع. إذ بدا كما لو أن إلدان، وهو مؤرخ قديم للحزن والألم الناجمين عن القهر والظلم، قد تنبأ بالكارثة التي حلت بمنزله. في عام 2016، كان قد نشر مجموعة من القصائد تحت عنوان "ساعة الفجر السادسة"، وكانت تلك هي الساعة التي بدأ فيها هجوم حماس. ويحتوي الكتاب على قصيدة مروّعة بعنوان "على جدران بئيري"، ناعيًا وفاة ابنته بسبب المرض (اسم الكيبوتس يعني بالعبرية "بئيري" أيضًا).
في أعقاب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تبدو القصيدة بشكل مخيف وكأنها تتنبأ بالدمار وتنقل رؤية معينة للصهيونية، باعتبارها نابعة من كارثة الشتات واليأس، حيث تجلب الأمة إلى أرض ملعونة يدفن فيها الأطفال من قبل آبائهم، ومع ذلك تحمل الأمل في فجر جديد ومفعم بالأمل:
على جدران بئيري كتبت قصتها
من أصولٍ وأعماقٍ تآكلها البرد
عندما كانوا يقرأون ما كان يحدث في الألم وأنوارها
تهاوت في ضباب الليل وظلامه
وتولَّد عواءٌ من ضباب الليل وظلامه
دَعْوَةٌ، لأَنَّ أَوْلَادَهَا قَدْ سَقَطُوا وَبَابٌ مُغْلَقٌ
لِنِعْمَةِ السَّماءِ يَتَنَفَّسُونَ الْوَحْشَةَ وَالْحُزْنَ
مَنْ يُعَزِّي آباءً لا عزاءَ لهمْ، فلعنةٌ
تَهْمِسُ فَلا نَدًى وَلا مَطَرٌ … فَلْتَبْكِ إِنْ قَدَرْتَ
هُنَالِكَ زَمَانٌ يَضِجُّ ظَلامُهُ … وَثَمَّ فَجْرٌ وَإِشْرَاقُ
مثل رثاء ديان لروعي، على جدران بئيري تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين. هل نقرأها على أنها رثاء لدمار كيبوتس جميل وبريء في الصحراء، أم أنها صرخة ألم على الثأر الدموي الذي لا ينتهي بين شعبي هذه الأرض؟ لم يخبرنا الشاعر بمعناه، كما هي عادة الشعراء. فقد كتب هذه القصيدة منذ سنوات حدادًا على ابنته الحبيبة. لكن بالنظر إلى السنوات العديدة التي قضاها في عمله الهادئ والدقيق والجارح، لا يبدو من الخيالي أن نعتقد أن القصيدة كانت دعوة للمصالحة والتعايش، وليس للمزيد من دورات سفك الدماء والانتقام.
وبينما تحدث هذه الحرب، فلديّ صلة شخصية بكيبوتس بئيري. فهو المكان الذي ترعرعت فيه زوجة ابني، وكانت رحلتي إلى "إسرائيل" في شهر حزيران/ يونيو في المقام الأول لزيارة التوأم – أحفادي – اللذين أنجبتهما إلى العالم في كانون الثاني/ يناير 2024. لكن الكيبوتس كان مهجورًا، وكان ابني وزوجة ابني وأطفالهما قد انتقلوا إلى شقة شاغرة قريبة مع عائلة من الناجين – أقارب مقربين لا يزال والدهم محتجزًا كرهينة – مما جعلهم مزيجًا لا يمكن تصوره من الحياة الجديدة والحزن الذي لا عزاء له في منزل واحد.
بالإضافة إلى رؤية العائلة، جئتُ إلى "إسرائيل" أيضًا لمقابلة الأصدقاء، فقد كنتُ آمل أن أفهم ما حدث في البلاد منذ بدء الحرب. لم تكن المحاضرة التي أُلغيت في جامعة بن غوريون على رأس جدول أعمالي. ولكن بمجرد وصولي إلى قاعة المحاضرة في ذلك اليوم في منتصف شهر حزيران/ يونيو، سرعان ما فهمت أن هذا الوضع المتفجر يمكن أن يوفر أيضًا بعض الأدلة لفهم عقلية جيل الشباب من الطلاب والجنود.
بعد أن جلسنا وبدأنا في الحديث، اتضح لي أن الطلاب كانوا يريدون أن يُستمع إليهم، وأن لا أحد، ربما حتى أساتذتهم ومديري جامعتهم، كان مهتمًا بالاستماع إليهم. أثار وجودي ومعرفتهم الغامضة بانتقادي للحرب في نفوسهم الحاجة إلى أن يشرحوا لي، وربما لأنفسهم أيضًا، ما كانوا منخرطين فيه كجنود وكمواطنين.
قفزت إحدى الشابات، التي عادت مؤخرًا من الخدمة العسكرية الطويلة في غزة، على المنصة وتحدثت بقوة عن الأصدقاء الذين فقدتهم وعن الطبيعة الشريرة لحماس، وعن حقيقة أنها ورفاقها كانوا يضحون بأنفسهم لضمان سلامة البلاد في المستقبل. بدأت بالبكاء في منتصف خطابها وهي في حالة ذهول شديد.
ورفض شاب، كان متماسكًا وفصيحًا، اقتراحي بأن انتقاد السياسات الإسرائيلية ليس بالضرورة بدافع معاداة السامية، ثم انطلق في عرض موجز لتاريخ الصهيونية كرد فعل على معاداة السامية وكمسار سياسي لا يحق للأغيار إنكاره. وعلى الرغم من انزعاجهم من آرائي وانفعالهم بسبب تجاربهم الأخيرة في غزة، فإن الآراء التي عبر عنها الطلاب لم تكن استثنائية بأي حال من الأحوال، فقد عكسوا قطاعات أكبر بكثير من الرأي العام في "إسرائيل".
مع العلم أنني كنت قد حذرت في السابق من الإبادة الجماعية، كان الطلاب حريصين بشكل خاص على أن يظهروا لي أنهم إنسانيون، وأنهم ليسوا قتلة. لم يكن لديهم شك في أن الجيش الإسرائيلي كان في الواقع الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، لكنهم كانوا مقتنعين أيضًا أن أي ضرر لحق بالأشخاص والمباني في غزة كان مبررًا تمامًا، وأن كل ذلك كان خطأ حماس التي تستخدمهم كدروع بشرية.
لقد أروني صورًا على هواتفهم لإثبات أنهم تصرفوا بشكل مثير للإعجاب تجاه الأطفال، وأنكروا وجود أي جوع في غزة، وأصروا على أن التدمير المنهجي للمدارس والجامعات والمستشفيات والمباني العامة والمساكن والبنية التحتية كان ضروريًا ومبررًا، كما اعتبروا أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية من قبل الدول الأخرى والأمم المتحدة مجرد معاداة للسامية.
وعلى عكس غالبية الإسرائيليين، رأى هؤلاء الشباب الدمار الذي لحق بغزة بأم أعينهم، وبدا لي أنهم لم يستوعبوا فقط وجهة نظر معينة أصبحت شائعة في "إسرائيل" – وهي أن تدمير غزة في حد ذاته كان ردًا مشروعًا على أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر – بل طوروا أيضًا طريقة تفكير كنتُ قد لاحظتها منذ سنوات عديدة عند دراسة سلوك جنود الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية ونظرتهم للعالم ونظرتهم لأنفسهم.
فبعد أن استبطأوا وجهات نظر معينة عن العدو – البلاشفة باعتبارهم أقل شأنًا، وحماس باعتبارهم حيوانات بشرية – وعن عموم السكان باعتبارهم أقل من البشر ولا يستحقون حقوقًا، يميل الجنود الذين يراقبون الفظائع أو يرتكبونها إلى نسبها ليس إلى جيشهم أو إلى أنفسهم، بل إلى العدو.
هل قُتل آلاف الأطفال؟ إنه خطأ العدو. هل قُتل أطفالنا؟ هذا بالتأكيد خطأ العدو. إذا نفذت حماس مذبحة في كيبوتس فهم نازيون، وإذا أسقطنا قنابل تزن 2000 رطل على ملاجئ اللاجئين وقتلنا مئات المدنيين، فهذا خطأ حماس لاختبائها بالقرب من هذه الملاجئ. بعد ما فعلوه بنا، ليس لدينا خيار سوى استئصالهم، وبعد ما فعلناه بهم، يمكننا فقط تخيل ما سيفعلونه بنا إذا لم ندمرهم، ببساطة ليس لدينا خيار آخر.
في منتصف تموز/ يوليو 1941، بعد أسابيع فقط من إطلاق ألمانيا ما أعلنه هتلر بأنها "حرب إبادة" ضد الاتحاد السوفيتي، كتب ضابط صف ألماني من الجبهة الشرقية إلى منزله:
يدين الشعب الألماني بدين كبير لفوهررنا، لأنه لو جاء هؤلاء الوحوش الذين هم أعداؤنا هنا إلى ألمانيا، لحدثت مثل هذه الجرائم التي لم يشهد العالم مثلها من قبل… ما رأيناه… يصل إلى حد ما لا يصدق… وعندما يقرأ المرء صحيفة دير شتورمر [صحيفة نازية] وينظر إلى الصور، فإن ذلك ليس سوى توضيح ضعيف لما نراه هنا والجرائم التي ارتكبها اليهود هنا.
ويرسم منشور دعائي للجيش صدر في حزيران/ يونيو 1941 صورة كابوسية مماثلة للضباط السياسيين في الجيش الأحمر، وسرعان ما اعتبرها الكثير من الجنود انعكاسًا للواقع:
كل من نظر إلى وجه المفوض الأحمر يعرف كيف يبدو البلاشفة. هنا ليست هناك حاجة للتعبيرات النظرية. سنقوم بإهانة الحيوانات إذا وصفنا هؤلاء الرجال الذين معظمهم من اليهود بأنهم وحوش. إنهم تجسيد للحقد الشيطاني والمجنون على الإنسانية النبيلة بأسرها… [إنهم] كانوا سيضعون نهاية لكل حياة ذات معنى، لو لم يتم سد هذا الثوران في اللحظة الأخيرة.
وبعد يومين من هجوم حماس، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: "نحن نحارب حيوانات بشرية، ويجب أن نتصرف على هذا الأساس"، وأضاف لاحقًا أن إسرائيل "ستفكك الأحياء واحدًا تلو الآخر في غزة". وأكد رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت: "نحن نحارب النازيين".
وحضّ رئيس الوزراء بنيامين
نتنياهو الإسرائيليين على "تذكر ما فعله العماليق بكم"، في إشارة إلى الدعوة التوراتية لإبادة العماليق "رجالاً ونساءً وأطفالاً ورضّعاً"، وقال في مقابلة إذاعية عن حماس: "أنا لا أسميهم حيوانات بشرية لأن ذلك سيكون إهانة للحيوانات".
وكتب نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري على موقع "إكس" أن هدف إسرائيل يجب أن يكون "محو قطاع غزة من على وجه الأرض". وقال على التلفزيون الإسرائيلي: "لا يوجد أناس غير متورطين… يجب أن نذهب إلى هناك ونقتل، ونقتل، ونقتل، ونقتل. يجب أن نقتلهم قبل أن يقتلونا".
وأكد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في خطاب له: "يجب أن يكتمل العمل… التدمير الكامل. امحوا ذكر العماليق من تحت السماء". وتحدث آفي ديختر، وزير الزراعة والرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، عن "طمس ذكرى نكبة غزة".
وقد منح الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ شهادة تكريم لأحد قدامى المحاربين الإسرائيليين البالغ من العمر 95 عامًا، والذي حثهم في خطابه التحفيزي لقوات الجيش الإسرائيلي التي تستعد لاجتياح غزة على "محو ذاكرتهم وعائلاتهم وأمهاتهم وأطفالهم" وعلى "تقديم مثال رائع لأجيال من الجنود".
لا عجب في وجود عدد لا يحصى من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لجنود الجيش الإسرائيلي في غزة التي تدعو إلى "قتل العرب" و"حرق أمهاتهم" و"تسوية غزة بالأرض"، ولم يتم اتخاذ أي إجراء تأديبي معروف من قبل قادتهم.
هذا هو منطق العنف اللامتناهي، منطق يسمح للمرء بتدمير شعب بأكمله والشعور بأنه مبرر تمامًا للقيام بذلك. إنه منطق الضحية – يجب علينا أن نقتلهم قبل أن يقتلونا، كما فعلوا من قبل – ولا شيء يقوي العنف أكثر من الشعور المبرر بالضحية. انظروا إلى ما حدث لنا في عام 1918، كما قال الجنود الألمان في عام 1942، مذكرين بأسطورة "الطعنة في الظهر" الدعائية التي عزت هزيمة ألمانيا الكارثية في الحرب العالمية الأولى إلى الخيانة اليهودية والشيوعية.
انظروا إلى ما حدث لنا في الهولوكوست، عندما وثقنا أن الآخرين سيأتون لنجدتنا، كما يقول جنود الجيش الإسرائيلي في عام 2024، وبالتالي منحوا أنفسهم ترخيصًا للتدمير العشوائي بناءً على مقارنة زائفة بين حماس والنازيين.
كان الشباب والشابات الذين تحدثت معهم في ذلك اليوم ممتلئين بالغضب، ليس ضدي – فقد هدأوا قليلاً عندما ذكرتُ خدمتي العسكرية – ولكن لأنهم، على ما أعتقد، شعروا بالخيانة من قبل كل من حولهم.
خيانة من قبل وسائل الإعلام التي اعتبروها ناقدة أكثر من اللازم، ومن قبل كبار القادة الذين اعتقدوا أنهم متساهلون أكثر من اللازم تجاه الفلسطينيين، ومن قبل السياسيين الذين فشلوا في منع مهزلة 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ومن قبل عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق "النصر الكامل"، ومن قبل المثقفين واليساريين الذين انتقدوهم بشكل غير عادل، ومن قبل الحكومة الأمريكية لعدم تقديمها ذخائر كافية بالسرعة الكافية، ومن قبل جميع السياسيين الأوروبيين المنافقين والطلاب المعادين للسامية الذين يحتجون على أفعالهم في غزة. بدا عليهم الخوف وعدم الأمان والارتباك، ومن المرجح أن بعضهم كان يعاني أيضًا من اضطراب ما بعد الصدمة.
أخبرتهم بقصة كيف استولى النازيون في عام 1930 على اتحاد الطلاب الألمان بشكل ديمقراطي. وشعر الطلاب في ذلك الوقت بالخيانة بسبب خسارة الحرب العالمية الأولى، وضياع الفرص بسبب الأزمة الاقتصادية، وفقدان الأرض والهيبة في أعقاب معاهدة السلام المهينة في فرساي، وأرادوا أن يجعلوا ألمانيا عظيمة مرة أخرى، وبدا أن هتلر قادر على تحقيق هذا الوعد.
تم التخلص من أعداء ألمانيا الداخليين، وازدهر اقتصادها، وخشتها الأمم الأخرى مرة أخرى، ثم خاضت الحرب وغزت أوروبا وقتلت الملايين من الناس. وأخيرًا، دُمرت البلاد تمامًا. لقد تساءلت بصوت عالٍ عما إذا كان الطلاب الألمان القلائل الذين نجوا من تلك السنوات الخمس عشرة قد ندموا على قرارهم في عام 1930 بدعم النازية، ولكني لا أعتقد أن الشباب والشابات في جامعة بن غوريون قد فهموا الآثار المترتبة على ما قلته لهم.
كان الطلاب مخيفين ومرعوبين في نفس الوقت، وقد جعلهم خوفهم أكثر عدوانية. يبدو أن هذا المستوى من التهديد، بالإضافة إلى درجة من التداخل في الرأي، قد ولّد الخوف والتذلل لدى رؤسائهم وأساتذتهم وإدارييهم الذين أظهروا ترددًا كبيرًا في تأديبهم بأي شكل من الأشكال.
في الوقت نفسه، كانت مجموعة من النقاد الإعلاميين والسياسيين يهللون لملائكة الدمار هؤلاء، ويصفونهم بالأبطال قبل لحظة واحدة فقط من دفنهم تحت التراب وإدارة ظهورهم لعائلاتهم المكلومة. يُقال للعائلات إن الجنود الذين سقطوا ماتوا من أجل قضية نبيلة، ولكن لا أحد يخصص الوقت الكافي لتوضيح ماهية تلك القضية في الواقع بخلاف مجرد البقاء على قيد الحياة من خلال المزيد من العنف.
وهكذا، شعرتُ بالأسف أيضًا على هؤلاء الطلاب الذين لم يكونوا على دراية بكيفية التلاعب بهم، لكنني غادرتُ ذلك الاجتماع وأنا مليء بالخوف والتشاؤم.
وبينما كنتُ عائدًا إلى الولايات المتحدة في نهاية شهر حزيران/ يونيو، تأملتُ في تجاربي خلال هذين الأسبوعين الفوضويين والمثيرين للقلق، فقد كنت مدركًا لعلاقتي العميقة بالبلد الذي غادرته، حيث لا يتعلق الأمر فقط بعلاقتي بعائلتي وأصدقائي الإسرائيليين، بل أيضًا بالمضمون الخاص بالثقافة والمجتمع الإسرائيلي الذي يتميز بعدم التباعد أو الاحترام. يمكن أن يكون هذا الأمر مبهجًا وكاشفًا، إذ يمكن للمرء أن يجد نفسه في لحظة واحدة تقريبًا في محادثات مكثفة، بل وحميمية مع الآخرين في الشارع، أو في مقهى، أو في حانة.
إلا أن هذا الجانب نفسه من الحياة الإسرائيلية يمكن أن يكون محبطًا إلى ما لا نهاية، نظرًا لقلة احترام المجاملات الاجتماعية. هناك ما يشبه عبادة الصدق والالتزام بالتعبير عما يدور في ذهنك، بغض النظر عمن تتحدث إليه أو مدى الإساءة التي قد تسببها.
هذا التوقع المشترك يخلق إحساسًا بالتضامن وبالخطوط التي لا يمكن تجاوزها. عندما تكون معنا، فنحن جميعًا عائلة واحدة، أما إذا انقلبتَ ضدنا أو كنتُ على الجانب الآخر من الانقسام الوطني، فأنت منبوذ ويمكنك أن تتوقع منا أن نلاحقك.
ربما كان هذا أيضًا هو السبب الذي جعلني هذه المرة، وللمرة الأولى، متخوفًا من الذهاب إلى "إسرائيل"، ولماذا كان جزء مني سعيدًا بالمغادرة. كانت البلاد قد تغيرت بطرق ظاهرة وخفية في آن واحد، طرق ربما كانت ستقيم حاجزًا بيني، كمراقب من الخارج، وبين من ظلوا جزءًا عضويًا منها.
لكن جزءًا آخر من تخوفي كان يتعلق بحقيقة أن رؤيتي لما يحدث في غزة قد تغيرت. ففي 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، كتبتُ في صحيفة نيويورك تايمز: "بصفتي مؤرخًا للإبادة الجماعية، أعتقد أنه لا يوجد دليل على أن الإبادة الجماعية تحدث الآن في غزة، على الرغم من أنه من المحتمل جدًا أن جرائم الحرب، بل وحتى الجرائم ضد الإنسانية، تحدث. […] نحن نعلم من التاريخ أنه من الأهمية بمكان التحذير من احتمال حدوث إبادة جماعية قبل وقوعها، بدلاً من إدانتها متأخرًا بعد وقوعها. أعتقد أنه لا يزال لدينا ذلك الوقت".
لم أعد أؤمن بذلك. بحلول الوقت الذي سافرتُ فيه إلى "إسرائيل"، كنتُ قد أصبحتُ مقتنعًا بأنه لم يعد من الممكن إنكار أن "إسرائيل" متورطة في جرائم حرب ممنهجة وجرائم ضد الإنسانية وأعمال إبادة جماعية على الأقل منذ الهجوم الذي شنه الجيش الإسرائيلي على رفح في 6 أيار/ مايو 2024.
لم يقتصر الأمر على أن هذا الهجوم على آخر تجمع لسكان غزة – ومعظمهم سبق أن شردهم الجيش الإسرائيلي عدة مرات، والذي دفعهم الآن مرة أخرى إلى ما يسمى بالمنطقة الآمنة – أظهر تجاهلًا تامًا لأي معايير إنسانية.
كما أنها أشارت بوضوح إلى أن الهدف النهائي لهذه العملية برمتها منذ البداية هو جعل قطاع غزة بأكمله غير صالح للسكن، وإضعاف سكانه إلى درجة تجعلهم إما أن ينقرضوا أو يبحثوا عن كل الخيارات الممكنة للفرار من القطاع. وبعبارة أخرى، فإن الخطاب الذي أطلقه القادة الإسرائيليون منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر قد تُرجم الآن إلى واقع، أي أن "إسرائيل" كانت تتصرف "بقصد التدمير الكلي أو الجزئي" للسكان الفلسطينيين في غزة "عن طريق القتل أو التسبب في ضرر جسيم أو فرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم" كما تنص اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948.
هذه قضايا لم أتمكن من مناقشتها إلا مع عدد قليل جدًا من النشطاء والباحثين والخبراء في القانون الدولي، وليس من المستغرب أن يكون من بين هؤلاء النشطاء مواطنون فلسطينيون في إسرائيل. وخارج هذه الدائرة المحدودة، فإن مثل هذه التصريحات حول عدم شرعية الإجراءات الإسرائيلية في غزة هي تصريحات مرفوضة في "إسرائيل". وحتى الغالبية العظمى من المحتجين ضد الحكومة، أولئك الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، لن يؤيدوها.
منذ عودتي من زيارتي، وأنا أحاول وضع تجربتي هناك في سياق أوسع. فالواقع على الأرض مدمر للغاية، والمستقبل يبدو قاتمًا للغاية، لدرجة أنني سمحتُ لنفسي بالانغماس في بعض الحقائق التاريخية المضادة للواقع، والتعبير عن بعض التكهنات المتفائلة حول مستقبل مختلف.
أسأل نفسي، ماذا كان سيحدث لو أن دولة "إسرائيل" المنشأة حديثًا أوفت بالتزامها بسن دستور يستند إلى إعلان استقلالها؟ ذلك الإعلان نفسه الذي نص على أن إسرائيل "ستقوم على الحرية والعدل والسلام كما توخى أنبياء إسرائيل، وستضمن المساواة التامة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس، وستضمن حرية الدين والضمير واللغة والتعليم والثقافة، وستحمي الأماكن المقدسة لجميع الأديان، وستكون مخلصة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة".
ما هو التأثير الذي كان سيحدثه مثل هذا الدستور على طبيعة الدولة؟ كيف كان من شأنه أن يخفف من تحول الصهيونية من أيديولوجية تسعى إلى تحرير اليهود من مهانة النفي والتمييز ووضعهم على قدم المساواة مع الأمم الأخرى في العالم، إلى أيديولوجية دولة قومية عرقية وقمع الآخرين والتوسع والفصل العنصري؟
خلال السنوات القليلة المفعمة بالأمل التي أعقبت عملية أوسلو للسلام، بدأ الناس في "إسرائيل" يتحدثون عن تحويلها إلى "دولة لجميع مواطنيها"، اليهود والفلسطينيين على حد سواء. وقد وضع اغتيال رئيس الوزراء رابين عام 1995 نهاية لهذا الحلم. هل سيكون بمقدور "إسرائيل" يومًا ما أن تتخلى عن الجوانب العنيفة والإقصائية والعسكرية والعنصرية المتزايدة في رؤيتها كما يتبناها الآن الكثير من مواطنيها اليهود؟ وهل ستتمكن يومًا ما من إعادة تخيل نفسها كما تصورها مؤسسوها ببلاغة – كدولة قائمة على الحرية والعدالة والسلام؟
من الصعب الانغماس في مثل هذه التخيلات في الوقت الحالي. ولكن ربما بسبب الحضيض الذي يجد الإسرائيليون أنفسهم فيه الآن، وأكثر من ذلك بكثير الفلسطينيون، وبسبب مسار الدمار الإقليمي الذي وضعهم فيه قادتهم، أدعو الله أن ترتفع الأصوات البديلة أخيرًا، فعلى حد تعبير الشاعر إلدان: "ما من وقتٍ يخيّم فيه الظلام إلا وفيه فجر وإشراق".