كتاب عربي 21

انتخابات تونس تدخل تحت الضغط العالي

- جيتي
عندما اضطر الرئيس قيس سعيد إلى القبول بإجراء انتخابات رئاسية، كانت البلاد قد وصلت إلى حالة من الإحباط الشامل، وقال كثيرون؛ إن الرجل سينظم الأمر على هواه فلا يسمح لغيره بالفوز، وكان الدليل الأكبر على ذلك، هو تعيينه لهيئة انتخابية فرزها على هواه. في العموم كان المعرضون المقاطعون مبدئيا أكثر من المتحمسين، لكن تيارا مكافحا أصر على الترشح وأعاد للساحة حيوية ونشاطا فقدتهما، فلما بدأ إسقاط الملفات بذرائع أقل ما يقال فيها أنها سخيفة، عادت مؤشرات الإحباط للارتفاع، فالرجل يصر على إفساد الموعد باستبعاد كل منافسة جدية.

المتفائلون أصروا وتقدموا بالاستئنافات القانونية للمحكمة الإدارية، التي تبين أنها (بمجمع قضاتها) بمنجاة من الضغط السياسي، وقبلت شكلا وأصلا ملفين ثقيلين كانا رُفضا؛ هما ملف الدكتور عبد الطيف المكي، وهو محسوب على التوجهات الإسلامية، وقبل ساعة من لحظة الكتابة قُبل ملف منذر الزنايدي، وهو وزير سابق في حكومات بن علي كان يصنف على الحمائم. فما الذي جرى حتى يستقل القضاء فجأة ويعاندوا رغبة الرئيس في الفوز قبل السباق؟ نحاول تبين المشهد على ضوء عودة الروح إلى المشهد الانتخابي، الذي نراه دخل تحت الضغط العالي.

هل انتهى تأثير انقلاب مصر على تونس؟
كل خطوة خطاها الانقلاب منذ 25 تموز/ يوليو، تكشف تطابق خطة السيسي مع خطة سعيد؛ ليس في الخطاب الشعبوي فحسب، بل في كيفية حماية السلطة من كل معارضة، بما في ذلك اختيار معارضين كرتونيين للمنافسة، على غرار حمدين صباحي وزهير المغزاوي.

كانت كل خطوة خطاها الانقلاب منذ 25 تموز/ يوليو، تكشف تطابق خطة السيسي مع خطة سعيد؛ ليس في الخطاب الشعبوي فحسب، بل في كيفية حماية السلطة من كل معارضة، بما في ذلك اختيار معارضين كرتونيين للمنافسة، على غرار حمدين صباحي وزهير المغزاوي.

كنا نتحسس استياء دوليا من نتائج حكم السيسي في مصر، رغم موقفه من غزة (وهو موقف مطلوب غربيا)، لكن احتمالات الانفجار الداخلي في جنوب المتوسط، ظلت دوما كابوسا غربيا، وقد تبين أن السيسي ذاهب إليه بقوة، وربما تكتب دوائر غربية أن الأمر مسألة وقت لا أكثر، لذلك بدا قيس سعيد وهو يسير على الطريق نفسه، بصدد خلق بؤرة تفجر أخرى أقرب إلى سواحل أوروبا، وهو عاجز رغم المساعدات على كبج جماح الهجرة السرية.

ولكي لا تتحول تونس إلى نسخة شرسة من مصر، فإن الانتخابات بدت حلا معقولا تستبق احتمالات الفوضى أو الدم، فأُجبر على إعلان موعد انتخابي (وقد تسرب من دوائر قريبة جديرة بالثقة أن الرجل كان ينوي تنظيم استفتاء في ذكرى الانقلاب، يمر به إلى عهدة أخرى أو أكثر)، لكنه ناور لكي يكون الفائز الوحيد.

الاستياء من مناورات الرئيس سُمع بقوة في الداخل والخارج، هناك قوى محلية شعرت بالخطر من استمرار حكم الرئيس بلا برنامج بل ببرنامج تخريبي؛ قوى المال والأعمال أولا، وإن لم تنطق بصوت عال، والقوة الصلبة وأعني الجيش بالتحديد كان يرى الكوارث الاجتماعية قادمة، وكان يعرف أنه سيتحمل ردعها أو في الأقل تنظيم فوضاها وهو لم يُخلق لها. لقد كشف التعديل الوزاري الأخير أن الوزراء العسكريين قد تم استبعادهم من دائرة النفوذ، مما رجح وجود خلافات مع الرئيس أفلح الجميع في كتمانها، لكن الشارع ليس غبيا.


الاستياء من مناورات الرئيس سُمع بقوة في الداخل والخارج، هناك قوى محلية شعرت بالخطر من استمرار حكم الرئيس بلا برنامج بل ببرنامج تخريبي؛ قوى المال والأعمال أولا، وإن لم تنطق بصوت عال، والقوة الصلبة وأعني الجيش بالتحديد كان يرى الكوارث الاجتماعية قادمة، وكان يعرف أنه سيتحمل ردعها أو في الأقل تنظيم فوضاها وهو لم يُخلق لها.

كما أن كل الطبقة السياسة على اختلافاتها مستاءة من الرئيس، بل صعدت بخطاب راديكالي، وكانت تستعد لخريف سياسي ساخن، رغم أنها بحثت بعقلانية عن أضعف احتمال تصويت ضمن نضال قانوني يتهرب من العنف في الشارع.

أما القوى الخارجية، ونخص بالذكر فرنسا، فقد فقدت نقاط ارتكاز تاريخية لها في تونس، فالثالوث المقبول لم يكن لها معه خط تواصل، بل ربما يقوم بالإضرار بمصالحها الاقتصادية والثقافية في تونس، نكاية فيها باسم خطاب السيادة الذي يستعمله الرئيس.

كما عبر السفير الأمريكي بتونس في لقاء إعلامي منشور؛ عن شعور غربي واسع بعدم الطمأنينة من اتجاه تونس شرقا وغزلها المستمر بالصين وروسيا، وهو باب مغلق لا يسمح بفتحه منذ الاستقلال.

تجمعت هذه المؤشرات أمام آخر القوى العاقلة والفاعلة في البلد، فكان قرار المحكمة الإدارية بتوسيع المنافسة بخلاف هوى الرئيس، بما يحفظ لتونس بعض هيبتها الشكلية، ويحفظ للقوى الخارجية وجهها من التدخلات السافرة في بلد مستقل على الورق.

هنا سيختلف الوضع عن مصر، وربما تؤدي تجربة إنهاء الانقلاب سلميا في تونس إلى اتباع الحل نفسه في مصر لاحقا، ويغلق قوس الانقلابات ولو بديمقراطية الحد الأدنى؛ شيء من بن علي ومبارك دون تيار إسلامي فعال، هذا وضع جُرب فاستقر أكثر من ربع قرن، وهو مستقر في الجزائر بعد عشرية الدم.

من يكون الرئيس بعد أن عادت الروح للمنافسة؟

نتيجة أولى تبدو محسومة، فقدَ قيس سعيد لعبته، بل سنشهد قبل موعد السادس من تشرين الأول/ أكتوبر قفز فئران كثيرة من سفينته. وحتى ذلك الحين بقي له أن يُحدث فوضى بحركة لن تكون إلا حماقة سياسية، مثل حل الهيئة الانتخابية بما يعطل المسار لمدة طويلة، وستكون القاضية في الداخل والخارج.

نتيجة ثانية، وخاصة في صورة قبول المرشح السيد عماد الدايمي (يحسم فيه يوم الجمعة، 30 آب/ أغسطس)، وهي عودة تنافس قوي على قاعدة استقطاب هوياتي، وهذا خطر على العملية الانتخابية برمتها، قد يفتح ثغرة للرئيس مرة أخرى يلغي النتيجة الأولى المذكورة أعلاه.

يوجد خلاف عميق بين المرشحين (في وضع ديمقراطي مستقر هو خلاف محمود)، ففي الوضع التونسي الحالي، سيحتاج التونسيون إلى اتفاق قبل الصندوق.

السيد منذر الزنايدي محسوب على نظام بن علي ويحمل كثيرا من إرثه البشع، وهو من وزرائه الذين لم يعتذروا للشعب التونسي، وإن كان فضّل الاختباء لمدة طويلة وراء أعماله في الخارج. كما أن شبهة علاقته بالفرنسيين تتأكد الآن، فقد عاد به لفرنسا حظ أن يكون لها رئيس تونسي موال، ولا يتجه بالبلد شرقا بالمرة، بما يجعله أيضا ورقة أمريكية.

يعد السيد عماد الدايمي مرشحا جديا أيضا وصاحب تجربة مع الدكتور المرزوقي، وهو غير معاد للإسلاميين، وسيحسب عليهم في أول جملة سياسية موجهة لهم، وسيتنافس على خزان الإسلاميين الانتخابي مع الدكتور عبد اللطف المكي، وهو من العائدين بعد رفض، بما يضعفهما كليهما في مواجهة الرئيس الحالي والزنايدي، الذي يستند إلى الخزان التجمعي والدستوري
هل ندخل العام 2025 برئيس جديد له شرعية الصندوق؟ إن أفلح التونسيون في ذلك، فسيكون إنهاء انقلاب بقوة الصندوق الانتخابي سابقة تاريخية مثل الثورة في 2011، وستصل عدواها الحميدة مرة أخرى إلى الشرق والغرب.
المحافظ، وخزان المال والأعمال وكثير من الليبراليين النافرين من حكم الإسلاميين؛ كما يستقطب آليا اليسار الفرانكفوني، وهو وإن كان قليل العدد، إلا أنه مؤثر إعلاميا، خاصة إذا استعيد خطاب الاستقطاب الهوياتي ضد عماد وضد المكي.

وفي كل الأحوال، فإن دورا ثانيا صار يقينا وفيه ستتضح اتجاهات التصويت، ومن العسير في غياب استطلاعات ثقة، أن نجزم بمرور اثنين غير الرئيس الحالي (وهي حالة مثالية ستكشف بل تثبت وعيا سياسيا عاليا عند التونسيين)، لكن نختم بقول متفائل: لقد عادت الروح للعملية الانتخابية التونسية، تحت تأثير قوى داخلية لا تلغوا في الإعلام كثيرا؛ وقوى خارجية يهمها ألا تتحول تونس إلى بؤرة فوضى يصل شرارها إلى الساحل الشمالي.

هل ندخل العام 2025 برئيس جديد له شرعية الصندوق؟ إن أفلح التونسيون في ذلك، فسيكون إنهاء انقلاب بقوة الصندوق الانتخابي سابقة تاريخية مثل الثورة في 2011، وستصل عدواها الحميدة مرة أخرى إلى الشرق والغرب. نأمل خيرا ونجاهد بالصندوق، فقد صار فرضا وليس سنة.