في
خضم عالم مضطرب وشرق أوسط مشتعل، وأجواء ضبابية تسودها التحديات الاقتصادية
والجيوسياسية، تتسارع الأحداث وتتداخل الأزمات، تصعد فيها غزة بملحمة صمود وصعود،
وتقف فيها الأمة
المصرية العريقة، كما تقف شجرة عتيقة تواجه عاصفة عاتية، جذورها
تمتد إلى أعماق التاريخ، وأوراقها الخضراء تحمل أمل أجيال سجينة، تتقاذفها الرياح
العاتية من كل اتجاه، فتتأرجح بين أزمات متلاحقة تتفاقم يوما بعد يوم، لتجعلها في
مهب تقلبات النظام العسكري في السياسة والاقتصاد، باستراتيجية تبدو وكأنها تسير
بالبلاد نحو هاوية مظلمة، بدءا من التضخم الجامح الذي يأكل الأخضر واليابس، مرورا
بالدين المتفاقم الذي يثقف كاهل الدولة، وصولا إلى الإفراط والتفريط، ليجد النظام
العسكري نفسه عالقا في مسار من القرارات المتناقضة، حيث الإفراط في استخدام القوة
في الداخل، وتفريط في حقوق الدولة في الخارج، هي الهاوية التي قد لا يكون منها
عودة.
استراتيجية
السقوط: من التضخم الجامح إلى الدين المتفاقم
بدأت
ملامح الانحدار تتجلى عندما وصل التضخم في مصر إلى مستويات غير مسبوقة، حيث سجلت
نسبته في آب/ أغسطس 2024 نحو 39.7 في المئة، وهو ما يعكس حالة من الفوضى الاقتصادية
التي باتت تؤثر على كل جوانب الحياة اليومية. وهو ما ظهر في تقرير صندوق النقد
الدولي بعد المراجعة الثالثة للترتيب الائتماني لمصر، حيث أكد على التضخم المتسارع
الذي لم يكن مجرد عثرة مؤقتة، بل هو نتيجة تراكمات طويلة الأمد لأداء اقتصادي
وسياسات نقدية ومالية لم تراعِ العدالة في توزيع الموارد والثروات أو تحقيق
التنمية المستدامة، وهو ما أدى تفاقم التضخم، وأصبحت العملة المصرية تفقد قيمتها
بسرعة، وزاد من حدة الفقر وزاد من الضغوط على الأسر الفقيرة والمتوسطة.
كمن يسير في صحراء قاحلة بحثا عن واحة، تتأرجح سياسات النظام العسكري بين التفريط في الأصول الوطنية والإفراط في الإنفاق على مشروعات غير مدروسة، وهو ما يشكل تفريطا في ثروات الأمة يشبه بيع الإرث العائلي في مزادٍ علني، ولم يكن سوى محاولة يائسة لسد فجوات لا نهاية لها
وفي
صلب هذه الأزمات، نجد أن الدين الخارجي قد وصل إلى مستويات قياسية، حيث بلغت قيمته
164.7 مليار دولار بحلول منتصف عام 2024، هذه الديون لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة
سياسات اقتراض مستمرة دون تخطيط اقتصادي سليم، حيث باتت البلاد تعتمد بشكل كبير
على القروض الدولية لتغطية عجز ميزانيتها المتفاقم، مع تراكم الفوائد وزيادة
الالتزامات المالية، بالقرارات العسكرية في السياسية، حيث فقدان الجزر التي على
البحر والنهر، ثم التفريط بالنيل؛ شريان الحياة، حتى أصبحت مصر أشبه بمن يغرق في
بحر من القرارات والديون، دون أن يظهر في الأفق قارب نجاة.
استدلال
من رفح إلى الصومال
وبينما
كانت مصر تعاني من الضغوط الاقتصادية، شهدت أيضا سلسلة من التنازلات السياسية التي
أضافت إلى المشهد تعقيدا آخر، بدأت هذه التنازلات بالتفريط في مناطق استراتيجية
مثل السيادة على معبر رفح ومحور صلاح الدين (فيلادلفيا)، والتي كانت تمثل حصونا
دفاعية مهمة للدولة، تشترك فيها مع الجوار الفلسطيني وبرعاية الاتحاد
الأوروبي، لتكون هذه القرارات مصدر القلق حول مستقبل السيادة الوطنية وقدرة الدولة
على الحفاظ على أراضيها في مواجهة التحديات الإقليمية.
ومع
تصاعد الأزمات الداخلية، لجأ النظام في مصر إلى تصدير أزماته عبر التورط في صراعات
خارجية، وكان الصومال ساحة لهذه المغامرات الجديدة، حيث المشاركة المصرية في قوات
حفظ السلام أو دعم الصراعات الحدودية أو الجهوزية لاسترداد ما تم التنازل عنه في
مفاوضات سد النهضة الإثيوبي وحصة مصر من النيل، وكأنها محاولة للهروب من مواجهة
الأزمات الداخلية الاقتصادية، والخارجية الدبلوماسية، بخطوة أخرى نحو المزيد من
الاستنزاف المالي والعسكري، في وقت هي في حاجة لاسترداد مواردها وثرواتها، وتغيير
هيكلي قيادي وإداري، سياسي واقتصادي، لمواجهة أزماتها المتفاقمة.
استقراء
للوجه الآخر للاستراتيجية: تفريط وإفراط
هي
كمن يسير في صحراء قاحلة بحثا عن واحة، تتأرجح سياسات النظام العسكري بين التفريط
في الأصول الوطنية والإفراط في الإنفاق على مشروعات غير مدروسة، وهو ما يشكل تفريطا
في ثروات الأمة يشبه بيع الإرث العائلي في مزادٍ علني، ولم يكن سوى محاولة يائسة
لسد فجوات لا نهاية لها، فالنظام يبيع الأصول كما يبيع المرء أثمن ما يملك ليشتري
طعاما يكفي ليوم واحد، متناسيا أن الأيام القادمة قد تكون أشد قسوة.
وفي
المقابل، نجد أن الإفراط في الإنفاق على مشروعات مثل تفريعة قناة السويس الجديدة
لم يؤدِ إلا إلى مزيد من التورط في الديون والمشاكل الاقتصادية، على الرغم من أنه كان
الأولى أن يتم توجيه هذه الأموال بعد الدراسات إلى قطاعات أكثر احتياجا، وليس
الإهدار كما حدث في محاولة يائسة لإثبات القوة، فالتفريعة سراب أسقط الاستثمار والاقتصاد
في مستنقع الديون، في الوقت الذي يشتعل في الجوار الفلسطيني والجوار الليبي
والجوار السوداني، والشرق الأوسط برمته.
تورط
جديد في الصومال وإثيوبيا: سيناريوهات محفوفة بالمخاطر
في
الآونة الأخيرة، انخرط النظام العسكري المصري في مشهد جيوسياسي جديد، حيث دفعته
الأزمات إلى التورط بشكل أكبر في النزاعات الإقليمية، الذي يراه البعض محاولة
للضغط على إثيوبيا عبر الصومال، وقد يتحول إلى صاعق يفجر المنطقة بأسرها. فالتعاون
العسكري مع الصومال وما يحمله من رسائل مبطنة لإثيوبيا، يشبه اللعب بالنار في حقل
من القش، ويضيف اشتعالا أفريقيا يضاف إلى الشرق أوسطيا، فإثيوبيا التي تقف على
حافة النزاع مع مصر حول سد النهضة، لن تنظر بعين الرضا إلى هذه التحركات، بل هي
ترى فيه انقلابا على اتفاق التفريط الذي وقعه النظام العسكري ذاته، وما تبعه من
ملء السد بمراحلة الخمس، وهو سيكون حتما إلى المواجهة المباشرة أقرب.
يبدو أن مصر تقترب بسرعة من نقطة لا رجعة منها، فالوقت يمضي، والتغيير الذي كان يجب أن يحدث منذ وقت طويل أصبح ضرورة لا مفر منها، والتساؤل الآن: هل يمكن للنظام أن يستعيد زمام المبادرة قبل فوات الأوان؟
وفي
ظل هذه التوترات، يبدو أن مصر قد وجدت نفسها في فخ جديد، فخ يلتف حولها كلما حاولت
الخروج منه، ذلك أن التورط في صراعات القرن الأفريقي لا يقدم إلا المزيد من التعقيد
للمشهد، ويضع مصر أمام سيناريوهات محفوفة بالمخاطر قد تكون لها عواقب وخيمة على
المنطقة بأسرها، في تحركات عسكرية لا تبدو أنها تحمل حلولا عقلانيا، بل تزيد من
التوترات الإقليمية، وكأنما النظام يمشي نحو الهاوية.
استشراف:
الساعات الأخيرة بتوقيت التغيير
في
ظل هذه الأجواء العاصفة، يبدو أن مصر تقترب بسرعة من نقطة لا رجعة منها، فالوقت
يمضي، والتغيير الذي كان يجب أن يحدث منذ وقت طويل أصبح ضرورة لا مفر منها، والتساؤل
الآن: هل يمكن للنظام أن يستعيد زمام المبادرة قبل فوات الأوان؟ هل يمكنه أن يعيد
بناء الثقة، وأن يتخذ القرارات الصعبة الصائبة، التي تجنب البلاد السقوط في هاوية
مظلمة؟
فالأمة
المصرية تحتاج اليوم إلى قادة يمتلكون الرؤية والشجاعة، قادة يدركون أن الوقت
ينفد، وأن هذه الساعات الأخيرة هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالتغيير
لم يعد خيارا، بل أصبح ضرورة حتمية، مصحوبا بسؤال عالق: هل سيختار النظام الطريق
الصحيح قبل فوات الأوان، أم أن مصر ستواصل السير نحو المجهول؟
في
كلمات، نرى الحل في التغيير باستراتيجية علمية وعملية، احترافية سيادية، سياسية واقتصادية
ودبلوماسية، محورها الإنسان ومرتكزاتها الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة
الإنسانية، فالمكانة الدولية، وعمقها الزمن، قوامها استحقاق الشعب المصري والجوار
المصري في مستقبل أفضل؛ مستقبل يحمل معه الأمل والعمل والاستقرار، تحت حكم
ديمقراطي في دولة مؤسسات وقانون، تقودها حكومة كفاءات وخبرات، بعد إطلاق سراح
الوزراء والبرلمانيين والعلماء والخبراء وأساتذة الجامعات والقانونيين والحقوقيين
والصحافيين الشرفاء القابعين في معتقلات وسجون النظام، لتكون بداية جديدة تليق
بمصر والجوار، بدلا من هذه العواصف التي لا تهدأ، وهو ما نراه قريبا.