يذهب محللون إلى أن
نتنياهو لا يريد أن يتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة؛ لأنه يعلم أن وقف الحرب يعني تشكيل لجنة تحقيق في إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر، واحتمال تحميله المسؤولية أو جزءا منها عن ذلك، يضاف لذلك احتمال محاكمته بتهم الفساد التي تلاحقه منذ عدة سنوات، فيما يذهب آخرون إلى أنه يعرقل الاتفاق للحفاظ على ائتلاف حكومته اليميني. إلا أن نتنياهو وجد في هجوم حماس، فرصة لتطبيق فكرة «
الجدار الحديدي» للصهيوني الروسي المتطرف زئيف
جابوتنسكي، التي وضعها قبل أكثر من 100 عام، إذ أطلق نتنياهو العنان للقوة الساحقة بحرب هائلة ومدمرة على قطاع غزة، ثم أتبعها بهجمات على عدد من مدن شمال الضفة الغربية ومخيماتها.
وكان قد ألقى خطابا في تجمع في تل أبيب في 3 آب/ أغسطس 2024، بمناسبة إحياء ذكرى جابوتنسكي، التي كان قد أقرها الكنيست كقانون في 2005، تناول فيه سياساته التي طالما كررها مئات المرات، إلا أن الجديد في ذلك الخطاب كان تشديده على دور التاريخ والجغرافيا، لترسيخ عقيدة أحقية اليهود بأرض فلسطين، حيث قال؛ إن غزة، خان يونس، دير البلح، ورفح هي مناطق «جبل إفرايم» التوراتية، وقال؛ «إن هذه المناطق التي يعمل فيها «جنودنا الأبطال» اليوم، هي الأرض التي عمل فيها أبطال القوة الصهيونية في بداية الحرب العالمية»، في إشارة لعهد جابوتنسكي.
وفي توظيفه لأحداث جرت قبل أكثر من مئة عام بربطها بما يجري اليوم قال؛ «إن جابوتنسكي كان في جبال إفرايم ورفح، للسيطرة عليها للدفاع عن إسرائيل من الجنوب»، وبإطلاقه هذا التصريح، فإنه يهدف لإظهار نفسه ممثلا للهوية اليهودية والصهيونية، والمستلهم لمعالم النهج الذي رسمه مؤسسو إسرائيل الأوائل، ويقدم نفسه وريثا لهؤلاء المؤسسين، وبما يميزه عن باقي القيادات الإسرائيلية الحالية، التي لا تملك المستوى نفسه من الامتداد التاريخي والأيديولوجي.
نتنياهو أعلن عشرات المرات، دون مواربة عن العقيدة العسكرية التي يؤمن بها وينفذها، إذ قال خلال الحفل نفسه: «كان جابوتنسكي يفهم الواقع، فإن لم نرد على أعدائنا الضربة بضربتين، فسنكون كالخراف التي تذهب إلى المذبح»، ووصف جابوتنسكي بأنه «أبو الصهيونية المحاربة»، وخاطب الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتسوغ الذي كان حاضرا في الحفل بقوله: «سيدي الرئيس، إن مبدأ الحائط الحديدي، يوجب أن يكون هناك وجود قويّ لجيشنا بوجه أعدائنا، وأنه لا يمكنهم قلعنا من أرضنا».
بالمجمل العام، فإن رؤية جابوتنسكي ارتكزت على ضرورة تنفيذ المشروع الصهيوني، من خلال جدار حديدي يعجز الفلسطينيون والعرب عن هدمه، وهذه الرؤية لطالما شكلت إلهاما لنتنياهو طيلة وجوده على سدة الحكم على مدى عقدين من الزمن، كما أنه يؤمن بأن الضغط العسكري والسحق والتدمير، الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأمن لإسرائيل، وهذه السياسة هي عمليا التجسيد الحرفي لأفكار جابوتنسكي، التي تأثر بها نتنياهو.
نتنياهو يعدّ أن قوة إسرائيل تنبع من جدار حديدي، بقوة عسكرية ساحقة، تضمن البقاء للدولة اليهودية وتجبر العرب على قبولها، وترفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية.
ومن الواضح أن نتنياهو يعد أن قوة إسرائيل تنبع من جدار حديدي، بقوة عسكرية ساحقة تضمن البقاء للدولة اليهودية، وتجبر العرب على قبولها، كما أنه يطبق الفكر الجابوتنسكي بتكثيف الاستيطان، ورفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية التي يراها أرضا يهودية، أو من خلال سياسة التدمير والقوة الساحقة في قطاع غزة، بالإضافة إلى أن إدارة ظهره لاتفاقيات أوسلو، هو تطبيق لتحذير جابوتنسكي من «أن السلام مع العرب يؤشر على ضعف اليهود، ما سيؤدي بهم للتهلكة».
ولم يقتصر تأثر نتنياهو بنظرية الجدار الحديدي الجابوتنسكية، بل إن سياسة التطبيع مع الدول العربية، التي تعززت في عهده، وتجاوزت إقامة علاقات دبلوماسية إلى تعاون في مجالات مختلفة، إنما هي أيضا مستقاة من أفكار جابوتنسكي المبنية على تكوين قوة ساحقة لليهود، للقضاء على كل من يفكر في مواجهتهم، وتجبر العرب في نهاية المطاف على التخلي عن قادتهم الذين يتبنون نهج المقاومة، وتسليم القيادة لمن يصفهم «بالمعتدلين»، الذين يمكن لليهود التوافق معهم.
وبتتبع سياسات نتنياهو منذ تشكيله حكومته لأول مرة عام 1996، وإمساكه بقرون الحكم في إسرائيل لمدة تزيد عن 15عاما متتالية منذ عام 2009 (باستثناء فترات قصيرة)، فإنه يعد نموذجا لما يعرف بـ«الواقعية الهجومية المتطرفة» وهي المدرسة السياسية نفسها للقوى العظمى التي تقوم على توازن القوى، وإلقاء التبعات على الآخرين.
ويعد نتنياهو أن الفكر الصهيوني صاحب الفضل في الحفاظ على الهوية اليهودية، وأن التخلي عن مبادئ هذا الفكر، بمنزلة تفريط بأمن إسرائيل. فالأمن بالنسبة له يفوق بأهميته أي مجال آخر كالاقتصاد أو السلام، وهو مرتبط بالأرض، وهذا يفسر رفضه مبدأ رابين ـ بيرس «الأرض مقابل السلام»، وبدلا من ذلك رفع شعار «السلام مقابل السلام».
وفي تكريسه لمبدأ «السلام مقابل السلام»، رفض التفاوض على الجولان باعتبارها تشكل العمق الاستراتيجي لإسرائيل، وكذلك ضم مدينة القدس بكاملها للسيادة الإسرائيلية، وحصل على اعتراف إدارة ترامب عام 2018 على كلا البندين السابقين.
كما أعلن آنذاك عن نيته ضم غور الأردن والضفة الغربية إلى إسرائيل للحفاظ على أمنها، إضافة إلى سعيه لضمان استمرار التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي في المنطقة.
سياسة نتنياهو الحالية هي التطبيق العملي لفكر زئيف جابوتنسكي، الذي كان يرى ألا سبيل لأي حل سياسي أو سلمي بين إسرائيل والعرب، بل إن الحل الوحيد هو بإقامة جدار صلب عازل بين الدولة اليهودية المسيطرة على ضفتي نهر الأردن، والعرب الذين لا يشكلون شعبا أو أمة، بل مجرد سكان لا هوية لهم ولا حقوق في الأرض، وأن الخطر الأكبر على دولة إسرائيل الرضوخ لسياسة التوافق والتعايش مع العرب.
وكان بنتسيون (الجابوتنسكي) والد نتنياهو، قد صرح لصحيفة «معاريف» في 3/4/ 2009، «بأن العربي عدو في الجوهر لا يمكن من حيث شخصيته أن يتم التوافق معه، فوجوده يتمثل في الحرب المستمرة، ومن ثم لا سبيل لأي سلم معه»، ثم يضيف في المقابلة نفسها «أن حل الدولتين لا معنى له، فهذه الأرض ليست لشعبين، بل لشعب واحد هو الشعب اليهودي، ولا يوجد شعب فلسطيني، ومن ثم لا يمكن إقامة دولة لأمة خيالية، وأن الحل الوحيد هو فرض سيطرة عسكرية شاملة».
وتشكل هذه الأفكار جوهر الفكر السياسي لبنيامين نتنياهو، المرتكز على نظرة تشاؤمية لمستقبل الشرق الأوسط، الأمر الذي يفرض على إسرائيل الدفاع عن وجودها ومصالحها بالقوة والعنف، والرفض وبشدة أي حلول سلمية مع الفلسطينيين والعرب، وكذلك التحالف مع القوى اليمينية المتطرفة في الغرب، على أساس مواجهة «الإرهاب»، حتى لو اقتضى الأمر التنسيق مع تيارات معادية للسامية.
إن «الصهيونية التنقيحية» التي أرسى أسسها زئيف جابوتنسكي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، هي نفسها سياسة حكومات نتنياهو منذ 2009 إلى اليوم، بحيث أصبحت إسرائيل دولة عنصرية تقوم على التمييز المؤسسي بين مكونات سكانها، وتقوم على الاستبداد العسكري، وتعتمد نظام الأبارتهايد، وفق تعريف القانون الدولي. ومن هنا، ندرك أن الائتلاف الحاكم حاليا في إسرائيل ليس نشازا، بل يعبر عن تحول داخلي طبيعي في الأيديولوجيا الصهيونية في نسختها الأكثر عنصرية وتشددا.