تقارير

هل القضايا الكبرى والمفصلية تُبنى على تأويلات دينية ظنية؟

من غير الممكن إيراد نبوءة في الخطاب القرآني أو النبوي ثم لا ينبني عليها شيء، لا من حيث التصورات، ولا من حيث العمل..
يُشكل الدين مرجعية موجهة وحاكمة لدى جمهور المتدينين في سائر شؤون حياتهم، كما تحضر النصوص الدينية في فهم الأحداث الجارية والتنبؤ بما سيقع في قابل الأيام، لا سيما ما يندرج منها تحت باب الإخبارات والنبوءات المستقبلية الواردة في نصوص الدين الإسلامي الأصلية، وهي القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة.

ولما للدين من سلطة عليا على أتباعه، وما يلعبه من دور أساسي في تشكيل عقائدهم وأفكارهم وتصوراتهم، فإن ما جاء في نصوصه الأصلية بشأن تلك النبوءات والإخبارات التي تتحدث عن قضايا كبرى ومفصلية يحتل مكانة مركزية في تفكير المتدينين ويحدد طريقة تعاملهم مع الأحداث الواقعة، وما يليها من أحداث مستقبلية محتملة.

لكن وكما هو مقرر في أصول الفقه الإسلامي فإن نصوص القرآن الكريم كلها قطعية من جهة ثبوتها، لكن الأمر ليس كذلك من جهة دلالتها فمنها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، أما الأحاديث النبوية فمنها ما هو قطعي الثبوت ومنها ما هو ظني الثبوت وفق تفصيلات مذكورة في علم مصطلح الحديث، أما من جهة الدلالة فمنها ما هو قطعي ومنها هو ظني الدلالة.

فإذا كان القرآن الكريم بكامل آياته قطعي الثبوت بلا شك، لكن آياته الكريمة تنقسم من حيث دلالتها إلى ما هو قطعي وما هو ظني، فإن ذلك يلقي بظلاله على تأويل تلك النبوءات الواردة في بعض آياته، التي تقع في دائرة ظنية الدلالة، وما ينشأ عنه من الاختلاف في الفهم والتصور والاستدلال، ومن ثم الاستناد إلى تلك التأويلات الظنية كأدلة قطعية لإنشاء تصورات حول قضايا كبرى ومفصلية.

ولعل من أبرز تجليات ذلك الاختلاف الواقع في تأويل آيات سورة الإسراء التي تحدثت عن قصة إفساد بني إسرائيل في مرتيه الأولى والثانية الواردة في قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} والآيات التي تليها، وما صاحب ذلك أو يصاحبه من أحداث، وما أفضى أو يفضي إليه من نتائج ومآلات.

ووفقا لباحثين فإن جمهور المفسرين القدامى مجمعون على أن الإفسادين وما أعقبهما من صور العقاب المذكور آيات سورة الإسراء وقعا معا قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم اختلفوا في تعيين زمان وقوع ذلك، وتحديد المعنيين بمن وصفهم الله بقوله "بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" كما تتبع ذلك وجمعه وفصله شيخ الأزهر السابق، الدكتور محمد الطنطاوي، في كتابه "بنو إسرائيل في القرآن والسنة".



لكن ثمة اجتهادات لعلماء معاصرين خالفوا فيها إجماع المفسرين السابقين، فقد ذهب كثير منهم إلى أن الإفساد الأول وقع بالفعل، ومنهم من حدد وقوعه زمن البعثة النبوية، والثاني هو ما نشاهده من إفساد بني إسرائيل الحالي، من أبرز أولئك العلماء الشيخ الأزهري عبد المعز عبد الستار، والشيخ محمد متولي الشعراوي، والدكتور بسام جرار، والدكتور أحمد نوفل، والدكتور صلاح الخالدي.

الشيخ الموريتاني محمد الحسن الددو خالفهم في تحديد الإفساد الأول إذ رأى أنه وقع قديما بعد زمن داود وسليمان عليهما السلام، كما خالفهم في تفسير عودة الضمائر الواردة في الآيات، مع موافقته لهم في تحديد الإفساد الثاني أنه الواقع في زماننا، ومن العلماء والباحثين المعاصرين من رأى أن الإفساد الأول هو ما نشهده الآن من إفساد بني إسرائيل، أما الثاني فلم يأت بعد كما ذهب إلى ذلك الدكتور طارق سويدان.


                     تفسير من سورة الاسراء وإفساد بني اسرائيل للعلامة الددو

في ظل الاختلاف الواسع في تأويل الآيات وتفسيرها وتحديد المراد بذلك هل يجوز شرعا بناء تصورات دينية كبرى بوصفها نبوءات جازمة لا بد أن تتحقق استنادا إلى أفهام وتأويلات ظنية الفهم والدلالة، وليست من النصوص قطعية الدلالة؟

في إطار مناقشة الأسئلة المثارة حول الموضوع، أوضح الباحث في العلوم الشرعية، والمتخصص في الفقه وأصوله، الدكتور أيمن خليل البلوي أن "مجرد ترجيح تفسير معين لخبر غيبي جاء بيانه في نص شرعي وترجيح تحققه في الواقع لا ضير فيه، إنما الضير أن يصبح هذا الترجيح قطعيا عند صاحبه فيتساوى في قوته مع النص القطعي، حتى إن ظهر خطأ هذا التفسير وخطأ إسقاطه على الواقع رجع الخطأ على النص الشرعي نفسه فشكك الناس بالنصوص الشرعية ومصداقيتها".

وأضاف: "والخلل بداية لم يكن في النص الشرعي إنما في إسقاطه جزما على الواقع، وثمة محذور آخر يترتب على الجزم بإسقاط الأخبار الغيبية على الواقع ألا وهو ظهور فقه الانتظار السلبي وترك العمل بما جاء في نصوص الوحي من أوامر وإرشادات قطعية تحث المسلم على الإعداد والأخذ بالأسباب".

وواصل البلوي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "هنا يصبح هذا الإسقاط مخدرا للأمة فوق تخديرها، بينما يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الإيجابية بأرقى صورها فيقول: "إنْ قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" فقد أمرنا بالعمل ولو قامت الساعة، لا بالانتظار".


                    د. أيمن البلوي.. باحث شرعي متخصص في الفقه وأصوله

وحذر من "ثالثة الأثافي" التي تتمثل "في الجزم بإسقاط أمر غيبي على الواقع هو التعسف في توجيه الأحداث نحو تحقيق النبوءة أو الخبر الغيبي ولو نتج عن ذلك كوارث كما حصل في حادثة جهيمان العتيبي إبان حادثة الحرم، وجزمه بكون فلان هو المهدي المنتظر، لكن يستثنى من ذلك ظهور أمارات قطعية تؤكد أن الواقع هو التطبيق العملي للخبر الغيبي أو النبوءة كما في أحاديث المسيح الدجال".

أما بخصوص الاختلاف حول تأويل آيات سورة الإسراء، وتحدد إفساد بني إسرائيل في المرة الأولى والثانية، فذكر البلوي أنه "يرجح قول الشيخ محمد الددو" لافتا إلى أن "زوال إسرائيل أمر حتمي ليس اعتمادا على تفسير الإفساد والعلو في سورة الإسراء فحسب، بل ثمة نصوص أخرى منها قوله تعالى (وإن عدتم عدنا)، وكأحاديث المسيح الدجال التي ذكرت تمركز المسلمين في بيت المقدس وقتها، وكعموم نصوص انتصار الإسلام والمسلمين، فالمسألة لم تعد في تقديري ظنية" على حد قوله.

من جهته رأى الباحث في التفسير والدراسات القرآنية، الدكتور محمد النمرات أن "من غير الممكن إيراد نبوءة في الخطاب القرآني أو النبوي ثم لا ينبني عليها شيء، لا من حيث التصورات، ولا من حيث العمل، وأنه لا إشكالية شرعية في تبني رأي في مسألة من هذا القبيل استنادا إلى اجتهاد ظني في تأويل النبوءة، بشرطين اثنين: الأول، أن يكون الظن ظنا راجحا لدى من يتبناه، مستندا إلى أدلة لها وجاهتها، عقلا ونقلا؛ والثاني، أن يوضح للناس وهو يتبنى الرأي ويصدره للناس أنه يفعل ذلك على سبيل الظن، لا على سبيل القطع والجزم".

وأردف: "لما يترتب على عدم صحة هذا الرأي مستقبلا من تشكيك الناس بوعد الله وإيقاعهم في حبائل اليأس والتواكل، فالإشكالية تكمن في التعامل مع ما هو ظني من تأويل النبوءات على أنه قطعي، ومع ما هو اجتهادي على أنه توقيفي، هذا بالنسبة للعلماء والمفكرين، أما بالنسبة للمسلمين بشكل عام، فالإشكالية الكبرى في مسألة النبوءات تكمن في انتظار تحققها عوضا عن السعي إلى تحقيقها".

وردا على سؤال "عربي21" بشأن اختلاف العلماء والمفسرين في تفسير الإفسادين المذكورين في أوائل سورة الإسراء، وهي آراء واجتهادات تبقى في دائرة الآراء الظنية، قال النمرات: "ثمة تأويلات يرجحها أو يبطلها الواقع، فآراء المفسرين القدامى قد أبطلها الواقع، وتلك الآراء التي تحدد (العباد .. عبادا لنا) أنهم نبوخذ نصر وكورش الفارسي في تقديري آراء شاذة، كما أن القطعية في مسائل الشرع ليست شرطا لقبول الآراء والعمل بها، بل "الظن الراجح) يكفي" وفق رأيه.

لكن في المقابل ثمة من يخشى أن "يكون في الإقدام على التفسير المذكور (إنزال الإفساد الثاني على ما يفعله الكيان الصهيوني في فلسطين) توجيه للآيات القرآنية المدروسة نحو قصد يتناغم مع آمالنا في التحرر من الاحتلال الصهيوني، وإن لم نتحقق من كونه هو مراد الله سبحانه منها؛ وذلك ضرب من تأويل النص بالتشهي، وقد أوصى العلماء المتصدي للتفسير بـ’التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة’" وفق الباحث المغربي المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور الحسين بودميع.


 
وناقش بودميع في مقالة بحثية مطولة، عنوانها "هل في القرآن تنبؤ بنهاية الكيان الصهيوني؟"، اطلعت "عربي21" عليها، جميع أدلة وآراء العلماء المعاصرين الذين ذهبوا إلى إنزال الإفساد الثاني على دولة إسرائيل هذه الأيام، مبينا ضعفها، ومناقشتها دليلا دليلا مناقشة تفصيلية" لافتا في الوقت نفسه إلى قضية هامة تتمحور حول "الأصول العرقية لليهود الحاليين في فلسطين وأنها ليست إسرائيلية، وأن الإسرائيليين أقلية ضئيلة بينهم، وأن اليهود المجتمعين حاليا في أرض فلسطين ليسوا من سلالة بني إسرائيل في معظمهم".

واستدل على ذلك بعدة دراسات، إحداها ما أكدته دراسة قام بها الأنثروبولوجي البريطاني (جيمس فنتون) عن يهود "إسرائيل" توصل فيها إلى أن "95% من اليهود ـ يعني المحتلين لفلسطين ـ ليسوا من إسرائيل التوراة، وإنما هم أجانب متحولون أو مختلطون"، متسائلا: "فهل يقبل مع ذلك أن يكون الاحتلال اليهودي الحالي للأرض المقدسة هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل في هذه الآيات، والمفسدون في أرض فلسطين ليسوا من بني إسرائيل؟".