التحولات الاستراتيجية لدى محور المقاومة لطالما شكلت عاملا يعقّد المشهد الإقليمي لدى الإدارة الأمريكية، ويفقدها القدرة على ترميم الردع الذي تحاول أن تؤمنه دائما إلى جانب كيانها الصهيوني.
وجبهة إسناد
غزة من
لبنان إلى اليمن رفعت من التهديدات على الممرات الجيوستراتيجية وعلى مجمل المشاريع الاقتصادية الأمريكية في المنطقة. وهذا ما دفعها إلى دعم عسكري واستخباراتي مطلق، ومشاركة فعلية في مواجهة حركات المقاومة لمساعدة إسرائيل على استعادة ما تعتقد أنه ردع استراتيجي، يعيد لها ترميم ما تحطم بفعل عملية طوفان الأقصى في تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي من قبل المقاومة في غزة المحاصرة. ذروة ممارسات إسرائيل وسياساتها تعبّر عن نية خلق وجود إسرائيلي دائم لا رجعة فيه في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولا يمكن للاحتلال أبدا أن يبرر للقوة المحتلة أن تكون بمثابة مصدر ملكية للأراضي، أو يبرر اكتسابها من قبل القوة المحتلة.
الاتهام بمعاداة السامية بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، أصبح مبرر الدعم الأمريكي لإسرائيل، على زعم أن الدولتين تواجهان تهديد الجماعات الإرهابية التي تنطلق من الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ومجموعة من الدول المارقة التي تدعم الإرهابيين. وعلى هذا الأساس وبدعم أمريكي مطلق تشن إسرائيل، منذ 7 أكتوبر الماضي، حربا مدمرة في غزة خلّفت أكثر من 137 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة.
وفي استهانة بالمجتمع الدولي، تواصل إسرائيل الحرب متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة. هي تتلقى ردّا إيرانيا على عنجهيتها وعربدتها الأخيرة، وانتشائها بعمليات الاغتيال التي طالت حسن نصر الله، الذي لعب دور الزعيم الديني والاستراتيجي والقائد العسكري الأعلى لأكبر قوة مقاومة لإسرائيل في المنطقة.
مقتله، وهو شخصية بارزة بين القوى المعادية لإسرائيل في الشرق الأوسط، وجّه ضربة موجعة لحزب الله، الذي قاتل إسرائيل لعدة عقود. وهناك تداعيات لما حدث هذا مؤكد، وإن كانت الصورة التي تصدرها أمريكا وإسرائيل للعالم، أنّ الهجوم الإيراني لم يكن فعالا. وبالتالي هو استعراضي بنية غطاء رفع المعنويات وتخفيف الضغط على تأخر الرد، قد يكون هدف أمريكا ألا ترد إسرائيل، وهي تبدو غير مستعدة لحرب شاملة.
الدعم النادر في خريطة العلاقات الدولية، الذي يجعل واشنطن تلتزم بدعم إسرائيل لما يزيد عن سبعة عقود لن يتغير في حرب الإبادة، التي تتالى فيها مجازر كيان
الاحتلال في حق المدنيين. كذلك اغتيال القادة وتغلغل إسرائيل في عملها الإرهابي دون رادع، وحين تستشعر خطر الرد تهرع للاستنجاد بالولايات المتحدة، وتستدعي مدمراتها وبوارجها الحربية لحمايتها.
ربما لو حدث رد ايراني إثر اغتيال إسماعيل هنية، ولم يتأخر كل هذا الوقت لما تجرأت إسرائيل على الخطوات التالية وكل ما حدث من اغتيالات.
إسرائيل تعتقد أن المقاومة سترتبك بعد تصفية قادتها، ولكنها تتوهم
إسرائيل تعتقد أن المقاومة سترتبك بعد تصفية قادتها، ولكنها تتوهم، فهذا لم يحدث في السابق ولن يحدث الآن. المقاومة ستعيد هيكلة نفسها وستكمل المسيرة وتحقق الإنجازات والانتصارات، ولن يهنأ المحتل الصهيوني بأفعاله الإجرامية في فلسطين ولبنان وفي أنحاء العالم العربي. وإن كان يقصف من الجو بأسلحة أمريكية فهو يفشل وينكسر ويتكبد الخسائر لو تجرأ على المواجهة البرية مع المقاومة اللبنانية، وستكون خسائره في مواجهات كهذه أكبر مما كبده إياها أبطال المقاومة في غزة. إنجازات المقاومة الفلسطينية في غزة واستمرار اشتعال الجبهة اليمنية واللبنانية منذ بداية الحرب الهمجية على الفلسطينيين، مقابل محدودية الإنجازات الإسرائيلية، ورغبة نتنياهو في عدم إيقاف الحرب والهروب إلى الأمام، جميعها معطيات جعلت الأمريكيين يعتمدون على آليات ترابط قوية مع العدو الصهيوني، تهدف من خلاله إلى تحقيق أهداف دون مستوى الدخول في وحل الشرق الأوسط. العمل الأمني والاستخباراتي المشترك مع الكيان، وإدارة الوقت بالتوازي مع العمل الدبلوماسي والتطورات الميدانية، وضبط جبهة الشمال، لحين انتهاء حرب غزة، وإدارة الهدن والصفقات الدبلوماسية على وقع التطورات الميدانية.
ماذا بعد الآن، هل باستطاعة أمريكا أن تدير الحرب الإسرائيلية بعد التطور الذي حدث في لبنان، وتمنع اشتعال المنطقة نحو حرب إقليمية شاملة بعد الرد الإيراني؟
نجح محور المقاومة بتنفيذ مبادرة استراتيجية عظيمة تركت تداعيات على وجودية كيان الاحتلال ومشروعه نحو فرض نفسه في المنطقة عبر مشروع التطبيع. وترك أيضا تأثيرات على المصالح الأمريكية في المنطقة.
تهشّم الدور الوظيفي الإسرائيلي نتيجة طوفان الأقصى، وعملية إدارة التصعيد دون مستوى الحرب يبدو أنها تنفلت من الجميع بما فيها أمريكا، التي يذهب مركز دراسات غرب آسيا إلى أن الدور الجزئي الذي نجحت واشنطن في تثبيته عبر اتفاقيات التطبيع والتفوق العسكري الإسرائيلي، تعرّض لضربة قوية مع الفشل الإسرائيلي وانهيار العقد الاجتماعي والردع الإسرائيلي على المستويات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية.
ما استدعى المبادرة والمسارعة الأمريكية لحماية الكيان. والأهم، أن التفوق العسكري الإسرائيلي، عقدة الاستراتيجية الأمريكية في ربط الدول العربية بالكيان مع الانكفاء الأمريكي النسبي نحو الشرق، تهشّم هو الآخر. تشكّل الصين بالدرجة الأولى ومن بعدها روسيا التحدّي الأول بالنسبة للولايات المتحدة على القيادة العالمية. حاليا الوضع الأمريكي أكثر قلقا من السابق بسبب الوقت المستهلك، والإمداد المستنزف دون تغيّر استراتيجي في مسار الحرب وتورط إدارة بايدن بالحملة على اليمن إلى جانب بريطانيا، ومشاركتها في الحرب على لبنان وحرب الابادة على غزة، وربما تصعيد عسكري مع إيران أيضا.
المشهد التصعيدي الأخير بتفاصيله المعقّدة والمتداخلة يُنتج خطرا على المصالح الأمريكية في المنطقة وكيانها الوظيفي الذي يعمل ضمن الأجندة الأمريكية. وكل خطوات تل أبيب تتم بعلم مسبق من واشنطن، وكل أعمالها الإجرامية تنفذ بسلاح أمريكي.
الولايات المتحدة التي تعتقد أنها ستحيّد الشرق الأوسط نحو هيمنة استراتيجية لكيانها الصهيوني، وتهتم بالصراع مع روسيا وفي بحر الصين الجنوبي ومنطقة المحيط الهادئ، ستغرق مرة أخرى في مستنقع الحروب الفاشلة ومغامراتها التي تنتهي بالفشل كما حدث في السابق.
القدس العربي