صحافة دولية

الإعلام الأمريكي.. بين تجاهل الإبادة الجماعية في غزة والتناقضات العسكرية والإستراتيجية

الإعلام الأمريكي تبنى الرواية الإسرائيلية للعدوان على غزة- إكس
تناول مقال للبروفيسور بيتر بينارت من جامعة سيتي بنيويورك، نشر في صحيفة "الغارديان" البريطانية، تغطية الإعلام الأمريكي للعدوان على غزة وتجاهل جرائم الاحتلال.

وقال إن الإعلام الرئيسي لم يتجاهل فقط تجاهل إسرائيل لحرية الفلسطينيين، بل والتناقضات في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.

وأضاف أنه "في عالم بديل، ربما أجاب الإعلام الأمريكي على هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر بوضع جهاد أبو سليم على قائمة الاتصال السريع، فهو يدير معهد الدراسات الفلسطينية في واشنطن، وهو ليس فقط من غزة، لكنه يتحدث العبرية بطلاقة، ويعد أطروحة دكتوراه في التاريخ والدراسات العبرية واليهودية".

ونشر مقالا قبل عدة أشهر من الهجمات ناقش فيه أن حماس "على ما يبدو تقوم بالمحافظة على مصادرها الإستراتيجية لمواجهة عسكرية كبيرة مع إسرائيل"، ومن الصعب التفكير بوجود شخص مثله يساعد الأمريكيين على فهم مذبحة حماس والرد الإسرائيلي الوحشي، ويقيم على مسافة تاكسي من استوديوهات التلفزة الأمريكية".

واستخدم أبو سليم في الأسابيع التي أعقبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر أي منصة أتيحت له للتحذير من أن الرد العسكري الإسرائيلي سيجلب الدمار لا الأمن.

كما توقع مرة بعد الأخرى بأن إسرائيل ستمحو غزة دون هزيمة حماس.

وكتب في 11 تشرين الأول/ أكتوبر على منصة إكس: "لا يوجد حل سياسي للأزمة"، وفي ذات الشهر قال إن "الغزو البري لن ينجح على الأرجح"، وتوقع في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر: "من المحتمل أن تقتل إسرائيل عشرة أضعاف الفلسطينيين الذين قتلتهم حتى الآن" و"لن تحقق إسرائيل النصر العسكري في غزة"، كما حذر من حرب واسعة "يتوقع الكثيرون أنه لن يكون هناك تصعيد إقليمي"، "لكنهم مخطئون"، كما قال.

ويقول بينارت إنه بعد عام على الحرب، تبدو كلمات أبو سليم مثل نبوءة تحققت.

وفي تموز/ يوليو، قدر باحثون في جامعة بيرزيت وكلية لندن للصحة والطب الاستوائي وجامعة ماكماستر أن حصيلة القتلى في غزة قد تصل إلى 186,000 قتيلا أي أكثر من 18 ضعف الرقم الذي أعلنته وزارة الصحة في غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

ومع ذلك، تظل إسرائيل بعيدة كل البعد عن تحقيق وعد رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، "بالقضاء" على حماس.

ووفقا لتحليل أجرته شبكة "سي إن إن" في آب/ أغسطس، ومشروع التهديدات الحرجة التابع لمعهد أمريكان إنتربرايز، ومعهد دراسة الحرب، فإن إسرائيل نجحت في جعل ثلاث كتائب فقط من كتائب حماس الأربع والعشرين "غير فعالة في القتال".

وفي حزيران/ يونيو، أعلن المتحدث العسكري الإسرائيلي الأدميرال البحري دانييل هاغاري قائلا: "مخطئ من يعتقد أننا نستطيع القضاء على حماس".

وللأسف لم يسمح الإعلام الأمريكي لأبو سليم بالاقتراب من الميكروفون أبدا. والمرة الوحيدة التي ظهر فيها على شبكة تلفزيون وكابل كانت قبل ستة أشهر بعد هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولتقديم صورة عن معاناة عائلته وليس من أجل تحليل الحرب.

وكان هذا نموذجيا، فبحسب دراسة أجراها ويليام يومانز من جامعة جورج واشنطن، فلم تجر أربعة برامج حوارية مهمة، وهي "قابل الصحافة" و"واجه الأمة" و"هذا الأسبوع" و"فوكس نيوز صنداي"، مقابلات إلا مرة واحدة مع فلسطيني مع أنها قابلت 140 ضيفا في الفترة ما بين 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 و 14 كانون الثاني/ يناير 2024، ومن ظهر في حوارات الأحد بدلا عن ذلك؟ 


وفي معظم الوقت، عارفون بخبايا واشنطن. ففي الأشهر الأولى من الحرب، كانت نسبة 80 بالمئة من ضيوف برامج الأحد، من المسؤولين الحاليين والسابقين في الحكومة الأمريكية.

ولم تكن هناك سوى قلة من الناس يعرفون الكثير عن غزة، ولم يشكك إلا عدد قليل منهم في تصرفات إسرائيل. مثلا، ففي 5 تشرين الثاني/ نوفمبر قال مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الجمهوري، لـ "فوكس نيوز صنداي" إن الولايات المتحدة سوف تساعد إسرائيل على "هزيمة حماس". ثم استعانت الشبكة بجاك ريد، السيناتور الديمقراطي، الذي تعهد بمساعدة إسرائيل في "تدمير" حماس.

وربما كان من الطبيعي أن تلجأ شبكات التلفزة للأشخاص العارفين بخبايا الأمور في واشنطن بدلا من الأشخاص الذين يعرفون غزة، وبعملها هذا، فإنها تكرر فشل وسائل الإعلام بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.

وفي عام 2007 حاول ثلاثة أكاديميين فهم السبب وراء فشل وسائل الإعلام الأمريكية في الفترة التي سبقت حرب العراق بإظهار الانتقادات التي وجهها الخبراء الأكاديميون والمراقبون من الخارج.

وكانت إجابتهم، أن وسائل الإعلام الأمريكية تأخذ تعليماتها/إشاراتها من الحزبين الرئيسين في أمريكا".

وفي كتابهم "عندما تفشل الصحافة: السلطة السياسية ووسائل الإعلام الإخبارية من العراق إلى [إعصار] كاترينا"، خلص دبليو لانس بينيت وريجينا لورانس وستيفن ليفينغستون إلى أنه عندما "تفكر الحكومة الأمريكية فعليا بالمبادرات المتنافسة"، فإن وسائل الإعلام الرئيسية تأخذ الموقف من الطرفين، وفق كاتب المقال

وأضاف أنه عندما يقرر المسؤولون في واشنطن أن هناك جانب واحد فقط، أي عندما "يتم التعامل مع قرارات سياسة مشكوك في حكمتها ولا يتم تحديها في دوائر الحكومة" فإن الإعلام الرسمي لا يناقش بصحتها. ولو وافق جونسون وريد على ضرورة مساعدة أمريكا لإسرائيل تدمير حماس، فإن برنامج "فوكس نيوز صنداي" يستنتج بأن هذه نقاط مشروعة للنقاش.

وتابع بأن المشكلة في هذه الدينامية هي أن قرارات السياسة الخارجية المدمرة غالبا ما تحظى بدعم من الحزبين، على الأقل في البداية، فقد مرر قرار خليج تونكين لعام 1964، الذي منح ليندون جونسون السلطة لتصعيد التدخل الأمريكي في فيتنام، في مجلس الشيوخ بأغلبية 88 صوتا مقابل صوتين وفي مجلس النواب بأغلبية 416 صوتا مقابل لا شيء.

وفي عام 2002، صوت العديد من الديمقراطيين البارزين في الكونغرس - بمن فيهم جو بايدن وهيلاري كلينتون وجون كيري وتوم داشل، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك، وريتشارد غيب هاردت، زعيم الأقلية في مجلس النواب آنذاك - لصالح تفويض غزو جورج دبليو بوش للعراق. وبعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تنافس بايدن وخصومه الجمهوريون لإظهار من يدعم حرب إسرائيل بشكل أكثر حزما.

ولم يكتف زعماء الحزبين بدعم الحرب بل وتجاهلوا الظروف التي يعيشون في ظلها الفلسطينيون.

وفي خطابه من المكتب البيضاوي في 20 تشرين الأول/ أكتوبر استخدم الرئيس بايدن كلمة "محتلة" لوصف سيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا، ولكن ليس سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية. ولم يعترف بايدن في ذلك الخطاب ولا في الخطاب الذي ألقاه قبل يومين في تل أبيب بأن الفلسطينيين في غزة عاشوا لعقود من الزمان تحت الحصار بحسب بينارت.


ونظرا لهذا فقد تجاهل الإعلام الرسمي هذا الواقع مع أن الباحثين الفلسطينيين، أشاروا أكثر من مرة لافتقار الفلسطينيين للحرية، وأنها كانت أمرا حاسما لفهم هجوم حماس.

وفي 51 لقطة تلفزيونية حللها يومانس ببرنامج الأحد، ذكرت كلمة "احتلال" 15 مرة فقط وذكرت كلمة "حصار" أربع مرات، وعلى النقيض من ذلك، ذكرت إيران 356 مرة، على الرغم من أن كلا من الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية خلصتا إلى أن طهران لم تلعب أي دور مباشر في هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

ويتساءل الكاتب، لماذا هذا التناقض؟ والجواب هو، لأن الجمهوريين استخدموا هجوم حماس للمطالبة بسياسة أكثر صرامة تجاه طهران. وفي واشنطن بعد هجمات تشرين الأول/ أكتوبر أصبحت إيران موضوع نقاش حزبي شرس، أما الاحتلال الإسرائيلي، فلم يكن كذلك.

ويقول بينارت، "لم يتجاهل الإعلام الرئيس حرمان إسرائيليين الفلسطينيين من الحرية، بل وتجاهلت التناقضات في الإستراتيجية العسكرية. وأصر المسؤولون الإسرائيليون، ومنذ البداية أن الضغط العسكري كاف لإقناع حماس على إعادة الأسرى الذين أخذتهم في أثناء الهجمات. كما وأصر عدد من المعلقين الفلسطينيين على خطأ هذا النهج، ومنذ البداية".

وفي تشرين الأول/ أكتوبر، حذر الكاتب الفلسطيني إياد البغدادي من أن غزو إسرائيل لغزة من شأنه أن "يضحي بالرهائن".

وفي كانون الثاني/ يناير، زعم الكاتب محمد شحادة، وهو من مواليد غزة، أن "وقف إطلاق النار الدائم" هو "السبيل الوحيد لتحرير الرهائن أحياء". واتفق العديد من عائلات الأسرى مع هذا الرأي.

وفي أواخر تشرين الأول/ أكتوبر ، ذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن ممثلي الأسرى حثوا نتنياهو على قبول عرض حماس بإعادة جميع الأسرى في مقابل جميع السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

ويشير الكاتب إلى أنه بات من الواضح أن شحادة والبغدادي وعائلات الأسرى كانوا على حق، فقد ألقت إسرائيل قنابل على غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر وأكثر مما ألقاه الحلفاء على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، فإنها لم تجبر حماس على التخلي عن الأسرى المتبقين لديها. وفي آب/ أغسطس، قال عاموس هرئيل، المحلل العسكري المخضرم لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، أن "الادعاء بأن الضغط العسكري الإسرائيلي وحده قادر على تحرير الرهائن كان خاطئا دائما". وكان العديد من الفلسطينيين والإسرائيليين يدركون ذلك منذ البداية. ولكن نفوذهم في واشنطن الرسمية كان ضئيلا في المناقشة الأمريكية العامة.

وربما ناقش البعض أن الإعلام الرسمي لم يعط المعارضين للحرب منبرا بعد هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر لأن الحركة همشت نفسها. وربما كان هذا صحيحا في بعض الحالات، وكان لشبكات التلفزة الحق بتجنب المعلقين الذي برروا هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

وكانت تريد ضيوفا لا ينتقدون الحرب ولكن تقديم مسار بديل للعمل، وهو أمر فشل اليسار بعمله.

ومع ذلك، لم يكن من الصعب العثور على مراقبين يعرفون غزة عن كثب ويعارضون سيطرة حماس على حياة المدنيين ويدعون إلى حل سياسي وليس عسكريا لهجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

وفي الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر ، أجاب شحادة على سؤال من تسعة ملامح :ماذا ستفعل إذا كنت في مكان إسرائيل وتعرض شعبك لهجوم. وباستثناء "الديمقراطية الأن" لم تجر أي شبكة تلفزيونية معه مقابلة منذ الهجمات.

وأخبر البغدادي الكاتب قائلا: " رغم أن مشاركاتي حصدت ملايين المشاهدات، وأنني متابع من قبل العديد من الصحفيين والمحللين وصناع السياسات في الولايات المتحدة، إلا أنني لم أتلق أي دعوات للظهور على قنوات الكابل أو الشبكات الإخبارية الأمريكية" بعد الهجمات.

وليس من الخطأ مقابلة الصحافيين لمسؤولي ورجال السلطة، لكن عندما يكون هذا كل ما يفعلونه، فإنهم يسمحون للسلطة، وليس الخبرة، بتحديد حدود المناقشة العامة المشروعة.

ومرة أخرى في التاريخ الأمريكي، أثبتت هذه المصطلحات أنها ضيقة بشكل كارثي بحسب بينارت.


ومع ذلك، لا يزال المسؤولون الأقوياء يهيمنون على موجات الأثير فقط، ومن النادر ما يطلب منهم تفسير أخطائهم الماضية. وفي الأشهر التي تلت 7 أكتوبر، كان الضيف الأكثر حضورا في البرامج التلفزيونية يوم الأحد هو وزير الخارجية أنطوني بلينكن.

ولم يظهر أي عضو في مجلس الشيوخ أكثر من ليندسي غراهام من ساوث كارولينا.

وفي 22 تشرين الأول/ أكتوبر، قال بلينكن إن إدارة بايدن "ليس عملها هو التخمين" لما ستقوم به إسرائيل من عمل عسكري. وفي 15 تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن غراهام في تسع مرات منفصلة أن إسرائيل يجب أن "تدمر" حماس. ولم تعمر أي من تصريحات الرجلين.

ويذكر الكاتب في النهاية أن هناك ما يجمع بلينكن وغراهام، ومن النادر ما يثيره الصحفيون الذين يجرون مقابلات معهما، وهو أنهما كانا من المؤيدين لغزو العراق.