عام على العدوان، ونهر الدماء في
غزة صار بحرا، مع نحو 100 ألف شهيد وجريح ومفقود، من بيت حانون شمالا حتى رفح جنوبا، حيث ازدادت وحشية العدوان مع فشله أمام المقاومة واطمئنانه للدعم الدولي المستمر، سيما الأمريكي منه.
وكانت المشاهد القادمة من غزة صادمة لدرجة كبيرة، هذا فضلا عن الدمار الهائل الذي عم القطاع، وهو ما دفع الجماهير منذ الأيام الأولى للخروج بتظاهرات حاشدة طافت أرجاء المعمورة.
وشهدت الأشهر الأولى للعدوان حراكا شعبيا واسعا في الدول العربية، حيث ملأت
التظاهرات شوارع العواصم والمدن من المحيط إلى خليج، وبدا كأنه طوفان للشعوب يسير مع طوفان الأقصى، العملية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال.
ويبدو من مسار الحرب في القطاع أن الاحتلال بات لا يقيم وزنا لأي خطوط حمراء سبق أن تخوف منها، خصوصا أن المواقف الرسمية العربية تراوحت بين الصمت والإدانة والدعوات لوقف الحرب.
خفوت الحراك
مرت الأيام، واستمرت آلة القتل الإسرائيلية في سفك دماء الغزاويين، حتى اختلطت المجازر من مستشفى المعمداني إلى مجمع الشفاء ثم جباليا، وصولا إلى مجازر الطحين وخيم النازحين، ومدرسة التابعين في حي الدرج غربي غزة.
وأمام هذا القتل بلا توقف، خفت
الحراك الشعبي العربي إلا بتظاهرات هنا وهناك في عمان أو صنعاء أو المغرب، بينما استمرت التظاهرات في العواصم الغربية.
وحول ذلك، يقول الباحث والكاتب السياسي محمد الخفاجي، إن "تراجع الدور الشعبي له عدة أسباب؛ أولها أن الجماهير تيقنت أن حراكها بلا فائدة في ظل وجود قرار عربي غير معلن بدعم العدوان، أو على الأقل الصمت تجاهه باستثناء بعض بيانات الإنكار والتنديد".
وأضاف في حديث لـ "عربي21”, "أن "السبب الثاني يعود إلى التضييق الأمني في بعض الدول، فهناك دول تحاسب وتحاكم من يتضامن مع غزة، مثل السعودية والإمارات، وحتى مصر، إذا خرج الكلام خارج إطار مزاج الشعوب، أما بقية البلدان، فهي بالتأكيد تلام لأنها لم تقدم ما يجب تجاه غزة".
في المقابل، يرى الكاتب العراقي نظير الكندوري، أنه "غالبا ما يستسهل عدد من الناس إلقاء اللوم على الشعوب العربية والإسلامية، جراء عدم قيامها بالتفاعل كما ينبغي تجاه ما يرتكب من جرائم في حق الفلسطينيين بشكل عام وحق أهل غزة بشكل خاص، ويستشهد هؤلاء بما تفعله باقي شعوب العالم من تفاعل كبير وحقيقي، بالرغم من أنهم لا يمتون بصلة للفلسطينيين سوى صلة الإنسانية، بينما الشعوب العربية تشارك الفلسطينيين بصلة العرق والتاريخ والدين واللغة والقرب الجغرافي، إلا أن تفاعلها كان متواضعًا جدًا".
دور النخب
وأضاف في معرض حديثه لـ "عربي21"، أن "العتب ينبغي أن يلقى على تلك النخب المفكرة والمثقفة بأكثر من إلقائه على الشعوب العربية والإسلامية. فالشعوب إذا كانت غافلة فسبب ذلك يعود إلى أن نخبها لم تكن بمستوى المسؤولية التي تقوم بدور المحفز لها ونشر الوعي بينها وتوجيههم إلى الوجه الصحيحة التي يثأرون بها لدمائهم التي تسفك وكرامتهم التي تهدر بأرض غزة".
وأضاف أن "هذه الشعوب كثيرًا ما خرجت بتظاهرات ومسيرات عفوية ضد ما يحدث في غزة، لكنها سرعان ما انزوت هذه التظاهرات وخفت بريقها؛ لأنها افتقرت إلى جهود النخب التنظيمية التي تعمل على إدامة زخم هذه الحراكات الشعبية".
وأردف: "ناهيك عن دور السلطات الأمنية التابعة للأنظمة المتسلطة على رقاب هذه الشعوب، والتي تحاول بكل قوتها السيطرة على شعوبها بالاعتماد على أكثر الأساليب البوليسية وحشيةً ومحاربة أرزاق المواطنين، حتى لا يتحول غضب هذه الشعوب إلى غضب ضد الأنظمة، التي في غالبها أما مطبعًا مع الكيان الصهيوني بالعلن، أو مطبعًا بالسر".
وأستدرك قائلا: "مع ذلك وبالرغم من غياب النخب الواعية التي تقود نضال الجماهير، وبالرغم من البطش الذي تقوم به الأنظمة ضد شعوبها حتى لا تتضامن مع شعبنا في غزة، فإن هذه الشعوب قامت بما تستطيع من جهود على مواقع التواصل الاجتماعي لطرح السردية الفلسطينية الصحيحة ضد الزيف الذي يقوم به الكيان طيلة العقود الماضية لحقيقة الصراع على أرض فلسطين".
وقد حققت هذه الشعوب نجاحات اعترف بها العدو قبل الصديق، وأعلن خسارته في المجال الإعلامي، ونجحت في توجيه أنظار العالم للقضية الفلسطينية، وفقا للكندوري.
الخفاجي قال بدوره، إن "هناك آلة إعلام عربية ضخمة تعمل إما على شيطنة الحراك الشعبي أو تخويف الناس منه، مدعومة بصوت السلطة، وهذا تسبب بانكفاء الكثير من النخب عن البوح ما يجب فعله تجاه غزة.
وأضاف أن "هناك الكثير من الخطوات لم تقدم عليها الشعوب، أو قل لم توجه إليها، مثلا محاصرة سفارات الدول الداعمة للعدوان أو المسير إلى الحدود في دول الطوق، وقد حدثت مثل هذا الحراك في الأردن على نحو متواضع".
وأردف: "لا أتصور أن سكان القطاع على مدى عام كانوا بحاجة لتظاهرات ترفع اللافتات لساعة أو اثنين ثم يعود المتظاهرون من حيث أتوا، بقدر ما كانوا يحتاجون لحراك قوي ذي زحم كبير يغير شيئا على أرض الواقع".
إحساس اليأس
بمقارنة الحراك الشعبي في أوروبا والولايات المتحدة وبين التظاهرات في الدول العربية، يجد القارئ للمشهد فروقا عديدة، سواء بالزخم وعدد التظاهرات ورقعتها، لذا كانت المطالبات بالمزيد متواترة.
يقول الكندوري حول هذه الجزئية: "بعد مضي عام على حرب الإبادة ضد شعبنا الفلسطيني في غزة، بدأ شعور اليأس يدب إلى نفوس الجماهير العربية، وبدأت تدرك أن جهودهم العفوية وغير المنظمة وغير المنضبطة لن تصل بهم إلى نتيجة ترضيهم ما دام لا يوجد تنظيم ينظم هذه الجهود".
وأضاف أن " الجماهير كانت تتوقع أنه بعد أحداث غزة سوف تحفز النخب العربية للعمل على تشكيل جماعات وتنظيمات سرية أو علنية تتبنى مشاركة النضال مع الفلسطينيين، أو على الأقل تعمل ضد أنظمتها التي تقوم بدعم الاحتلال بحربه ضد الفلسطينيين"
وأردف بأن "ذلك لم يحدث مع الأسف، وعدم حدوثه لا تلام عليه الشعوب، إنما تلام عليه النخف الواعية والمثقفة والمفكرة، التي لم تعمل على إيجاد مثل هذه التنظيمات وتصرفت بأنانية وفضلت مصالحها الشخصية".
وختم: "باختصار، الشعب النائم في سبات عميق، هو الشعب الذي تتميز نخبه بأنانية مفرطة تجعلها لا تفكر إلَّا بمصالحها، أما الشعوب الحية والخلاقة والثائرة، فهي الشعوب التي تمتلك نخبة مُضحية، تؤمن بالصالح العام، وتقود الجماهير لما فيه رفعتها وكرامتها".
المقاطعة
منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبالتزامن مع بدء العدوان على غزة، بدأ ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي الدعوة لمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال.
وشملت المقاطعة كبريات الشركات العالمية الداعمة للاحتلال على غرار "ستاربكس" و"ماكدونالدز" و"بابا جونز".. وغيرها؛ بسبب تقديمها دعما لجيش الاحتلال الإسرائيلي، سواء ماديا أو معنويا.
وسريعا بدا أثر المقاطعة، حيث تكبّدت شركة "ستاربكس" ما وُصف بـ"الخسارة الهائلة" في القيمة السوقية، حيث بلغت 11 مليار دولار، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 9.4 في المئة، ما دق ناقوس الخطر داخل كافة أروقة شركة متاجر القهوة، الأولى عالميا.
كما اعترفت شركة مطاعم "ماكدونالدز" الأمريكية للوجبات السريعة بتأثر أعمالها بسبب المقاطعة الواسعة؛ إثر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ودعم السلسلة، فضلا عن دعم الإدارة الأمريكية للحرب.
وقال الرئيس التنفيذي للسلسلة، كريس كمبينسكي، إن عددا من الأسواق في الشرق الأوسط، وخارجه "تأثرت بشكل ملموس" بسبب حرب إسرائيل، إضافة إلى ما قال إنها "معلومات مضللة" حول العلامة التجارية، بشأن دعمها للاحتلال.
وفي آب/ أغسطس الماضي، ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" في تقرير لها أنه "من مصر إلى إندونيسيا والسعودية وباكستان، يرفض المستهلكون البضائع التي تنتجها شركات مثل كوكا كولا وستارباكس ومونديلز وبيتزا هات، احتجاجا على ما ينظر إليه على أنه دعم الشركات الأم لإسرائيل في حربها ضد غزة".
وقال أماربال ساندهو، المدير التنفيذي لشركة مطاعم "أمريكانا" التي تدير امتيازات كرسبي كريم وبيتزا هات وكي أف سي في الشرق الأوسط وقازاخستان: "هذه الحادثة غير مسبوقة، وطول أمد الحادثة غير مسبوق، وكذا كثافتها غير مسبوقة".
وتعد المقاطعة الحالية الأكثر انتشارا، ولم يمر شيء على الذاكرة الحديثة مثلها، ويتم نشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتحفزها الحكومات وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات أو بي دي إس، بشكل يؤكد على أهمية حملات التواصل الاجتماعي التي تظهر فجأة وتؤلم الشركات العملاقة.
وقد ترددت شركات متعددة الجنسيات خلال البيانات الجديدة في الكشف عن الأرباح في الربع الثاني من العام الحالي للإشارة إلى الموضوع مباشرة، واكتفى بعضها بالحديث عن تحديات جيوسياسية، فيما اعترفت شركات أخرى بأثر الحرب عليها مباشرة.
أثر الحراك على الشعوب
وشددت السلطات الأمنية في عدة دول عربية من إجراءاتها مع كل مجزرة جديدة يرتكبها الاحتلال في غزة، خشية تصعيد الشارع، كما تعرض العديد من المتظاهرين للاعتقال.
يضع الخفاجي خيارين للمرحلة المقبلة على الصعيد الشعبي، فإما أن "تحدد حرب غزة لنظرة جديدة من المحكوم للحاكم، وبالتالي قد نرى أنفسنا فجأة أمام ربيع عربي جديد مشحون بالموقف الرسمي المخزي تجاه العدوان، أو سنكون أمام شعوب سيطول عذابها، ولن تستطيع تغيير شيء من واقعها في المدى المنظور.
وختم الخفاجي بأن "الحراك المتواضع للشعوب تجاه غزة سيدفع الاستبداد إلى الأمام أكثر في منطقتنا العربية، وسيجعل الحكام في مأمن من أي حراك شعبي، فمن صمت على إبادة غزة لن يحركه شيء آخر".