عاد الرئيس
التونسي إلى مكتبه منتصرا بنسبة تصويت عالية، ونراه يستعد لفترة
رئاسية قد تكون خمس سنوات، ولا شيء في الأفق يمنعه أن يمدد حكمه إلى عشر سنوات أخرى.
صار الحديث عن انقلاب نوعا من الثرثرة، ووجب القبول بحقيقة بسيطة وواضحة، لم يستطع
أحد من أهل السياسة في تونس إيقاف مسار
قيس سعيد في الاستيلاء والحكم.
السؤال القديم عن قوته لم يعد مجديا؛ لأنه كشف وهو الأعزل من كل جمهور منظم
ضَعف معارضيه، وله كامل الحق أن يحكم على هواه. لكن سيادته على بلاده لن تمنع من
طرح السؤال عن أسباب وصوله وصَولاته المظفرة، لذلك نظن أن الأسئلة والمطارحات
الفكرية يجب أن تتجه إلى مراجعات مختلفة، تتجاوز شخصه وحكمه إلى الإقرار أولا بفشل
الربيع العربي في فرض
الديمقراطية، والبحث ثانيا في سبل التجاوز، إن كانت هناك رغبة
فعلية في التجاوز.
الأسئلة والمطارحات الفكرية، يجب أن تتجه إلى مراجعات مختلفة تتجاوز شخصه وحكمه إلى الإقرار أولا بفشل الربيع العربي في فرض الديمقراطية، والبحث ثانيا في سبل التجاوز، إن كانت هناك رغبة فعلية في التجاوز.
هل نُقِرُّ بفشل الربيع العربي؟
وجب التواضع لحقيقة كل وعود الربيع العربي كانت عبقرية وراقية، لكنها لم
تجد مدافعين جديين عنها، بما يسهل علينا قول حقيقة أخرى؛ تأسيسية النخب السياسية
العربية لم تؤمن بالحرية، وإن كتبت فيها المجلدات، وهذه النخب هي من أتت بقيس سعيد
مثلما أتت بالسيسي، ومثلما تنافح عن بشار في سوريا وحفتر في ليبيا والعسكر في الجزائر.
لقد عاينّا ذلك في مواقف كثيرة وهربنا من الإقرار بالحقيقة؛ الحرية ليست قيمة
مشتركة عند النخب، وقد فضلت عليها السلم الاجتماعي الضامن للرواتب والمداخيل، تحت
أي شكل من أشكال الحكم.
لقد قضينا خمس عشرة سنة ندافع عن وعود الربيع العربي، وكان دفاعنا قائما على
إنقاذ الأمل الأخير من تونس، لكن
انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2024 قدمت لنا
الحقيقة عارية، ولذلك وجب تخفيض السقوف وبدء المراجعات المضنية. كيف لشعب متعلم وفيه
نسبة جامعيين عالية جدا، أن يقبل على نفسه العيش في نظام سياسي لا يضمن له الحريات؟
إن المراجعات المطلوبة ليست خطاب مواساة بعد هزيمة كروية، بل إعادة نظر
عميقة في فكر النخب وأسباب تخليها عن حرياتها مقابل سهولة العيش أو ما تتوهمه
سهولة، دون أن تمنح نفسها فرصة اختبار الاحتمالات الكامنة في الحرية.
إن بلدا مثل تونس، تقدم جامعاته مطولات فكرية عن مزايا الحرية في بناء الدول
وصناعة القوة، لا يمكن فهم نخبه الكسولة في معركة الحريات، إلا أن تكون دروس
جامعاته مقررات منسوخة تؤمّن أجرا لملقيها على شباب غرّ، يظن خيرا بأساتذته.
الجميع محتاج إلى مراجعات
لا أحد مستثنى إلا إذا دفن رأسه في التراب، وردد مثل عوام الناس: "ماذا
نفعل بالحرية، فهي لا توفر لنا خبزا؟". لا لوم على العوام ممن لم يذق طعم
الحرية تحت سلسلة الأنظمة القمعية التي تتالت عليه، فاكتفى بالسعي إلى تأمين قوته
وقوت عياله، وظل دهره ضحية ماكينات الدعاية السياسة الكافرة بالحرية.
في طريق المراجعات، نتوقع أن سيقوم قوم كثيرا بإلقاء اللوم على قوى خارجية، عطلت مسار بناء الحريات بعد الربيع العربي وقبله أيضا، وهذا عذر مقبول إلى حين،
ولكن السؤال الذي لا يطرحه القائلون بذلك، هو: منذ متى كانت القوى الخارجية تدعم
معارك الحريات، خاصة أن هؤلاء يعرفون القوى الخارجية ويسمونها بأسمائها، فهي قوى
الاحتلال التي دمرت بلدانهم منذ قرنين، ولا تزال تفعل بقوة وتفان؟
لقد كتبنا أن معركة الديمقراطية هي أولا معركة تحرر وطني، يترادف فيها
الدفاع عن الديمقراطية مع الدفاع عن الحرية، والسببان يجتمعان لتحقيق الاستقلال
السياسي والاقتصادي. وهذه بديهة بسيطة يخجلنا تكرارها، لذلك، فإن السؤال بعد اندحار
آخر جمهور عربي أمام الدكتاتورية، هو: من أين نبدأ المراجعات المصيرية؟ وهذا السؤال
يتفرع إلى أسئلة كثيرة؛ أهمها: هل يمكن الاعتماد على النخب الفكرية والسياسية التي
فشلت في صيانة الحريات التي ألقاها بين أيديها ثوار أطفال بلا برنامج سياسي؟
فشل جماعي
فشلت أحزاب الإسلام السياسي في الدفاع عن وجودها (وهذا يخصها)، وفشلت في
حماية الحريات وهذا يخص الجمهور العريض، وخاصة الجمهور الذي منحها ثقته في أول
انتخابات ديمقراطية في تونس ومصر. ألفت هذا الأحزاب الآن سردية تقوم على أنها
أُفشلت ولم تفشل، وهذه بعض الحقيقة لا كلها، فمن لم يفهم طبيعة خصومه في الداخل
والخارج، ولم يبتكر سبل التصدي لهم، لا يحق له التذرع بهم، فهم جزء من المشهد
السياسي.
كل هؤلاء فَشَلة بطرق مختلفة وعليهم الإقرار بفشلهم ودورهم في إفشال الربيع العربي، وهم من مكّن للسيسي وقيس سعيد وعسكر الجزائر وحفتر بسبل مختلفة، لكن بنتيجة واحدة. فإذا فعلوا ذلك علنا، فقد بدأت المراجعات وبدأ الاستعداد الفعلي لتنزيل أفكار الربيع العربي وطموحاته في الأرض والنضال الفعلي في تحقيقها.
لقد كشفت هذه الأحزاب ضعفها وخاصة جهلها بمجتمعاتها ونخبها، وعليها أن تبدأ
من هنا سلسلة مراجعاتها المضنية، لعل يُكتب لها يوما دور آخر للمشاركة. يوجد خلل في
التأسيس ومنه تسللت كل أسباب الفشل، ووجب أن تمتد هذه المراجعات إلى مشروع الإسلام
السياسي نفسه، فقد مرّ قرن كامل على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، ولا يزال كثير من
منتسبيها يفكر في استرجاع الخلافة، في حين طرح عليه الربيع العربي مسائل إجرائية قُطرية، لم يجد لها الأجوبة الشافية.
فشل اليسار العربي في التطور من أحزاب أيديولوجية منغلقة على شكل طوائف إلى
أحزاب ذات مشروع اجتماعي، رغم أن الطلب على الاجتماعي كان في خلفية الربيع العربي، والعوام كانوا متشوفين إلى عدالة وإنصاف، لكن اليسار العربي بكل أسمائه (وأسماؤه
الكثيرة دليل ضعف لا قوة)، أصر على معارك جانبية مارسها دوما لصالح السلطة، وهي
معارك الاستئصال، وكان أكثر أجر يقبضه منها هو تخفيض ثمن المشاريب الروحية في
الحانات الشعبية، حيث يطيب لليسار حديث الحرية والشعر ومحاربة الإسلام السياسي.
فشل القوميون العرب في التحول من كتائب عسكرية في خدمة الدبابات إلى أحزاب
سياسية، وظل خطابهم يتخفى خلف السيادة رغم زمن العولمة، وجمهور العوام يراهم
ينكرون حتى حركة حماس؛ لأنها ليست قومية، بل لأنها إخوانية وعليها شبهة إسلام سياسي؛
وبعض القوميين ودّ لو ألحقها عبد الناصر بسيد قطب.
كل هؤلاء فَشَلة بطرق مختلفة وعليهم الإقرار بفشلهم ودورهم في إفشال الربيع
العربي، وهم من مكّن للسيسي وقيس سعيد وعسكر الجزائر وحفتر بسبل مختلفة، لكن بنتيجة
واحدة. فإذا فعلوا ذلك علنا، فقد بدأت المراجعات وبدأ الاستعداد الفعلي لتنزيل
أفكار الربيع العربي وطموحاته في الأرض والنضال الفعلي في تحقيقها؛ الربيع الذي
سيظل حلما كبيرا موضوعا فوق طاولة كل سياسي يحترم نفسه، ويعمل على كسب جمهور يفكر
لا كقطعان من العوام الباكين على الخبز، كلما سألهم المرء عن رأيهم قالوا: ماذا
نفعل بالحرية؟