أعتقد أن أهم مكاسب «طوفان الأقصى» هو العودة بالكيان الصهيوني إلى نقطة الصفر، من حيث مدى شرعية وجوده، على مستوى الشارع العربي، ليس ذلك فقط، بل بنسبة كبيرة أيضاً على المستوى الشعبي حول العالم، وإلى حد ما في الأروقة السياسية الإقليمية والدولية، وهو ما سوف يفتح باب النقاش، كلما استمرت الحرب، حول هذه القضية التي تعد على قدر كبير من الأهمية، والتي كانت قد توارت تماماً، خلال ما يقرب من نصف قرن من الزمان، وتحديداً مع زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس، عام 1977، واعتبار ذلك بداية منح الشرعية العربية لذلك الكيان اللقيط.
منذ ذلك التاريخ أصبح لدينا في العالم العربي أكثر من جيل، كان ضحية للتناول الإعلامي الخارجي المزيف، قبل أن يمتد ذلك التناول إلى الإعلام الداخلي في عدد من الأقطار العربية، بالتزامن مع سياسات غريبة ومريبة، بدأت تتسرب من الخارج والداخل معاً، حول لقاءات عربية سرية مع الصهاينة من داخل الكيان وخارجه، أسفرت في نهاية الأمر عن عمليات تطبيع معلنة، وأخرى مازالت في الخفاء تنتظر الإعلان، وثالثة كانت في الطريق، حتى أصبح المواطن في معظم الأحوال في حيرة، بين قناعاته بعدم شرعية الكيان، وممارسات الأنظمة الرسمية، التي عبثت بالمناهج الدراسية والإعلام ومنابر دور العبادة، لصالح تلك الأجندة المفروضة أمريكياً.
طوفان الأقصى، بعيداً عما حققه على أرض الواقع من إنجاز عسكري، قضى على ذلك الوهم المتعلق بقدرات وتفوق جيش
الاحتلال، استطاع أن يحق إنجازاً سياسياً على ثلاثة محاور مهمة، لا نستطيع الجزم بأنها كانت في حسابات زعيم الطوفان يحيى السنوار، وقت الإعداد لتلك العملية، التي تقف أمامها الحسابات العسكرية الآن، عاجزة عن الاستيعاب والرصد والتحليل والدراسة، سواء في الداخل الإسرائيلي، أو في مراكز الدراسات العسكرية الغربية، ويمكن إجمال المحاور الثلاثة في التالي:
أولاً: عودة
القضية الفلسطينية إلى الوجود من الفناء، بعد أن أضحت من الماضي، سواء في السجلات الدولية، أو حتى في السجلات العربية، ممثلة في جامعة الدول، التي لم تعد تأتي على ذكر القضية من قريب أو بعيد، حتى في خضم الأحداث الجارية، نزولاً عند سياسات بعض الأنظمة المهيمنة على القرار العربي، والتمويل المالي للجامعة، وأصبحت القضية الآن تفرض نفسها على كل المحافل الدولية، إن بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، أو بالاعتراف بها في عدد كبير من العواصم الأوروبية وغير الأوروبية، ناهيك عن توقيع عقوبات على الكيان، وصلت إلى حد قطع العلاقات.
ثانيا: عادت القضية الفلسطينية، في الشارع العربي، كما كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تحت عنوان، الصراع العربي الإسرائيلي، بعد أن دأب الإعلام العربي في السنوات الأخيرة، على استخدام تعبير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما لم تعد معه قضية العرب الأولى، ما جعل التطبيع ينخر كالسوس، في عاصمة تلو أخرى، وشركات تتبعها أخرى، فأصبحت هذه العواصم وتلك الشركات منبوذة شعبياً الآن.
ثالثاً: استطاع طوفان الأقصى تغيير بوصلة الشعوب غير العربية، تجاه القضية الفلسطينية، بعد 76 عاماً من التغييب الإعلامي والسياسي، خصوصاً في الولايات المتحدة ودول الغرب، ما جعل الحديث هناك الآن يدور بقوة، حول مدى شرعية ذلك الكيان، وكيف أنه كيان مغتصب، قام على أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، وأحدث بذلك شرخاً عميقاً بين الشعوب، وتلك الأنظمة الداعمة للكيان ظلماً وعدواناً، وهو أمر كان يحتاج في حد ذاته إلى سنوات طويلة من الجهد والإنفاق حتى يمكن تحقيقه.
عاد الكيان بالفعل إلى نقطة الصفر الآن، فلا هو كيان شرعي
عاد الكيان بالفعل إلى نقطة الصفر الآن، فلا هو كيان شرعي، كما روجت لذلك المنظمات الدولية، ولا هو كيان أخلاقي، كما روج الإعلام الصهيوني العالمي، ولا هو كيان ديمقراطي، كما روج لنفسه، وهو ما كان يحتم على العرب، التعامل مع هذه المتغيرات، من خلال وقفة جماعية مسؤولة، تضع المصلحة العليا للأمة فوق كل اعتبار، بالبناء على ما تحقق، وذلك بدعوة دول العالم إلى سحب اعترافها بهذا الكيان، حتى يمكن إقناع القاطنين هناك بالعودة إلى أوطانهم التي جاؤوا منها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، على اعتبار أنه تم التغرير بهم أو بآبائهم، عن جهل أو إغراء أو تحقيق مكاسب من أي نوع. ربما كان الكيان الصهيوني، أكثر إحساساً بما يجري على أرض الواقع، أكثر من العرب، الذي بدا على مواقفهم الخذلان، أو على أقل تقدير التردد، في التعامل مع الأحداث.
ذلك أن الكيان يتعامل مع الحرب الدائرة الآن، على أنها حرب وجودية – نكون أو لا نكون- وليست مجرد هزيمة أو انتصار، والفارق كبير في الحالتين، بما يجعله يستخدم كل الأسلحة غير المشروعة، ويقتل بلا هوادة، رغم إصرار الجانب الآخر، ممثلاً في المقاومة الفلسطينية واللبنانية معاً، على استهداف الآليات والقواعد العسكرية، دون استهداف المدنيين، وهو ما تحرص عليه أيضاً مقاومة الإسناد في كل من اليمن والعراق. إلى جانب كل ذلك، وتأكيداً على العودة إلى نقطة الصفر، يمكن القول إن ما تسمى بالديانة الإبراهيمية، تبخرت وأصبحت سراباً هي الأخرى، ذلك أنها كانت ضمن المشاريع العبثية، التي تبنتها أنظمة التطبيع، من خلال الأجهزة المخابراتية، الإسرائيلية والأمريكية، كما أن ما تسمى بصفقة القرن أيضاً، أصبحت في خبر كان، بعد أن كشفت التسريبات عن أنها لا تعدو عن كونها امتداداً لسلسلة مشاريع الخيانة، التي بدأت مع تقسيمات، سايكس بيكو، عام 1916.
أتمنى من النخبة السياسية والثقافية العربية، في الداخل العربي وخارجه، كما وسائل الإعلام، تبني هذا الطرح، المتعلق بنهاية ذلك الكيان الصهيوني، وقد آن أوان عودة مكوناته، من أشكيناز، وسفارديم، وأفارقة، وغيرهم، إلى أوطانهم التي نزحوا منها، في ظروف ربما كانت تتطلب ذلك، أما وقد تغيرت هذه الظروف الآن، فإن المنطق والحكمة تحتمان إعادة النظر في القضية من كل جوانبها، بعد أن أصبحوا بتجمعهم هذا، على أنقاض أصحاب الأرض، يشكلون خطرا على الأمن والسلم الدوليين، ودماراً للمنطقة بشكل خاص، تستخدمهم الأنظمة الاستعمارية لتحقيق مآربها.
أما إن كانت هناك بعض البلدان، مثل ألمانيا على سبيل المثال، تخشى عودتهم، وتخشى منهم، وتدعم وجودهم بالمنطقة إلى ما لا نهاية، خوفاً من تلك العودة، لأسباب عديدة، فإن الأمر يتطلب وقفة جادة في المحافل الدولية، لفضح ذلك الزيف، الذي سيتكشف أيضاً من بلدان أخرى، لكل منها أسبابها، خاصة إذا علمنا أن المانيا في حاجة، كما هو معلن، عن استقدام سبعة ملايين شخص من أنحاء العالم، لإنقاذ النسل والاقتصاد والإنتاج بها، وهو عدد اليهود بالأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أنها تأبى مثل هذا الطرح.
كما أن ولاية أمريكية واحدة، مثل كاليفورنيا، تستطيع استيعاب هذا العدد أيضاً بجدارة، إلا أن معظم الشعب الأمريكي سيرفض ذلك. نحن أمام قوم كشفوا عن وجههم القبيح، وعن حقيقتهم التاريخية، خلال عام الطوفان بشكل خاص، حينما استهدفوا الأطفال والنساء والمدارس والملاجئ والمستشفيات وطواقم الإسعاف، وهو ما سيساعد على نبذهم عالمياً أكثر وأكثر.
ويجعل من قبولهم مستقبلاً في أي من المجتمعات أمراً مستحيلاً، إلا أننا الآن أمام فرصة تاريخية، تجعلنا نطالب بالحد الأدنى، وهو أن يعود كلٌ إلى وطنه، ونبدأ من نقطة الصفر، وهي أن وعد وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، عام 1917، كان وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وقد آن أوان عودة الأرض، وعودة اللاجئين، وعودة الحق، والاعتذار عن الوعد البريطاني.
القدس العربي