ليست الولايات المتحدة الأمريكية في انتخاباتها الرئاسية والبرلمانية التي تعقد اليوم باستثناء على التحولات السياسية والمجتمعية المركبة التي يشهدها الغرب.
تجاوزت دورة الحياة السياسية في الغرب أحزاب اليمين واليسار التقليدية وتبايناتها المعلومة بشأن قضايا مثل الإنفاق الحكومي والنظم الضريبية والإعانات الاجتماعية وأطر الرعاية الصحية وحدود تدخل مؤسسات الدولة في النشاط الاقتصادي والموقف من قضايا الحريات الشخصية مثل إقرار حق المثليين جنسيا في الزواج.
اليوم، يدور التنافس في الانتخابات البرلمانية والرئاسية حول قضايا أخرى ومعها تقفز إلى واجهة السياسة قوى يمينية متطرفة وشعبوية وقوى يسارية تحمل أجندة راديكالية.
يحتل مراكز الصدارة على قائمة القضايا الراهنة خليط من أمور إما لم تكن مطروحة على المجتمعات الغربية خلال السنوات الماضية أو ظلت حبيسة الهوامش وبعيدة عن قلب الحياة السياسية لا تقربها الأحزاب الكبيرة بأي حال من الأحوال.
اليوم، أضحى الانقلاب على المنظومة الحرة للتجارة الدولية بقرارات حمائية وبإنهاء اتفاقيات المناطق الحرة، كما يلحظ في الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وفي تهديدات أحزاب اليمين المتطرف في إيطاليا والسويد وغيرهما بالخروج من الاتحاد وفي العقوبات التجارية والتعريفات الجمركية المتكررة التي تفرضها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الصين، قضية انتخابية بامتياز.
اليوم، يحشد اليمين المتطرف أنصاره انطلاقا من تلك الأمور ويروج في سياقها لنظرة شوفينية للاقتصاد العالمي والتجارة الدولية تدعي أن السبيل الوحيد للحفاظ على فرص العمل والاستثمارات الوطنية داخل الدولة المعنية إنما يتمثل في إغلاق أبواب الأسواق المحلية أمام المنتجات والاستثمارات الخارجية ولتذهب حرية حركة البضائع ورؤوس الأموال واليد العاملة إلى الجحيم.
في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، خرجت الأجندة الحمائية من رحم الحزب الجمهوري وحزب المحافظين بعد أن اختطفت الحزبين قوى اليمين الشعبوي. بعبارة أخرى، خرج الاندفاع في اتجاه الانقلاب على منظومة الحرة للتجارة الدولية من رحم حزبين عرفا تقليديا بالدفاع عنها وبرفض تدخل مؤسسات الدولة في الأسواق أو في النشاط الاقتصادي وبازدراء الأجندات الحمائية، الحزب الجمهوري الأمريكي الذي جاء في ثمانينيات القرن العشرين برونالد ريغان رئيسا وحزب المحافظين البريطاني الذي تزعمته مارغريت تاتشر وحكمت بلادها سنوات طويلة حتى بدت كرئيسة وزراء أبدية.
لا يقتصر الترويج للانقلاب على المنظومة الحرة للتجارة الدولية على قوى اليمين المتطرف والشعبوي التي يتصدرها اليوم مجددا دونالد
ترامب، بل يتداخل في الأمر أيضا وبمقترحات سياسية مشابهة اليسار التقدمي والراديكالي صاحب الخطاب المتخوف من «العولمة الاقتصادية والتجارية» والموقف الغائم من الأجندة الحمائية على النحو الذي يعبر عنه الكثير من أعضاء الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة والكثير من ممثلي أحزاب الوسط واليسار في أوروبا.
وفي المساحة الفاصلة بين إغلاق أبواب الأسواق في وجه المنتجات والاستثمارات الخارجية وبين إغلاق أبواب البلدان الغربية في وجه غير الغربيين تظهر ملامح قضية كبرى أخرى، هي قضية
الهجرة، تلك القضية التي تشغل الرأي العام الأمريكي والأوروبي وتجر من ورائها مسألة اللجوء والموقف من اللاجئين.
خلال السنوات الماضية، سعت أحزاب اليمين واليسار التقليدية إلى ترك قضية الهجرة بعيدا عن قلب التنافس الانتخابي وإلى اعتماد المتوازن من السياسات بشأنها على نحو يفتح أبواب الولايات المتحدة وأوروبا للمهاجرين واللاجئين دون أن تغير المعدلات العددية لقدومهم هوية البلدان الغربية أو تهدد (وهو الأهم) نظم الأمان الاجتماعي (إعانات الفقراء والعاطلين عن العمل وأطر الرعاية الصحية).
ترك اليمين واليسار قضية الهجرة بعيدا على هوامش الحياة السياسية ولم تلتفت الأحزاب التقليدية إلى الخطر الذي كانت قوى اليمين المتطرف والشعبوي تحدثه هناك بالترويج لخطاب كراهية ضد الأجانب وبالمطالبة بوقف قدوم المهاجرين انطلاقا من نظرة شوفينية بائسة تعادي الغرباء وتختزل هوية الغرب إن في لون بشرة أو انتماء ديني أو مكان ميلاد.
ثم كان أن انفجر الأمر في وجه البلدان الغربية، بالقطع مع استمرار ارتحال أعداد كبيرة من المكسيك والمجتمعات الفقيرة في أمريكا الوسطى والجنوبية ومع نزوح أعداد غير مسبوقة من الفارين من جحيم الحروب الأهلية في اتجاه أوروبا بحثا عن الحياة الآمنة، وباتت قضية الهجرة وتابعتها المتمثلة في قضية اللجوء تتصدر التنافس الانتخابي وتأتي بالناخبين إلى مراكز الاقتراع وتخرجهم كمواطنين في احتجاجات متكررة.
اليوم، اليمين المتطرف والشعبوي بخطابه الكاره للأجانب وبمفرداته الشوفينية التي تروج للخوف من الغرباء ومن استئثارهم بثروات «أهل البلد» يسيطر على التناول العام لقضيتي الهجرة واللجوء بينما تلهث أحزاب اليمين واليسار التقليدي للإبقاء على شيء من التعقل والرشد السياسيين وتتواصل خسائرها في صناديق الاقتراع. هكذا يتحدث دونالد ترامب وهو يقترب من البيت الأبيض مجددا، وهكذا تفوز أحزاب اليمين المتطرف بمواقع مؤثرة في البرلمانات الأوروبية.
المراد هو إغلاق أبواب الهجرة في وجه الراغبين في قدوم الغرب لأسباب اقتصادية (البحث عن فرص أفضل للعمل) واجتماعية (الحصول على فرص أفضل للتعليم في مراحل الدراسة الجامعية والدراسات العليا) وإنسانية (تعقب بعض الأقليات الدينية والمثليين جنسيا في العديد من بلدان العالم خارج الغرب).
والمراد أيضا هو إغلاق أبواب اللجوء في وجه الفارين من جحيم الحروب الأهلية والإرهاب وفي وجه الباحثين عن حياة آمنة. بأجندة الكراهية والخوف هذه فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية 2016 وقد يفوز بها مجددا في 2024، وبها فاز اليمينيون بالحكم في إيطاليا وبمواقع الأكثرية البرلمانية في إيطاليا والنمسا وهولندا، وبها صار حزب «البديل لألمانيا» المتطرف والقريب من أوساط الحركات النازية القوى الحزبية الأولى أو الثانية في بعض الولايات الألمانية في الشرق، وبها اقتربت حزب ماري لوبن في فرنسا من إسقاط حكومة الوسط وتهديد رئاسة إيمانويل ماكرون.
لم يعد اليمين واليسار التقليدي بقادر على مواجهة سطوة اليمين المتطرف والشعبوي فيما خص قضيتي الهجرة واللجوء
لم يعد اليمين واليسار التقليدي بقادر على مواجهة سطوة اليمين المتطرف والشعبوي فيما خص قضيتي الهجرة واللجوء، فالتردد السياسي والتخوف من خسائر انتخابية متتالية يكبلان أحزابهما. فقط قوى اليسار التقدمي والراديكالي هي التي تستطيع المواجهة من خلال تنظيم الاحتجاجات الشعبية وصياغة خطاب مرحب بقدوم المهاجرين واللاجئين، وإن بحسابات تعني ابتعاد اليسار التقدمي عن دوائر الحكم والائتلافات الحاكمة لسنوات طويلة قادمة.
وقد يكون هذا هو ما ستنتجه انتخابات اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من الحشد الواسع للنساء المعتزمات التصويت لصالح المرشحة الديمقراطية كاميلا
هاريس على خلفية مسألة الحق في الإجهاض.
القدس العربي