قضايا وآراء

آخر أيام العثمانيين.. پورتريه مصري من إسطنبول

السلطان عبد الحميد
منذ شرعنا في تنوير للنشر والإعلام بنشر النصوص التأسيسيَّة للفكر الإسلامي الحديث، ابتداء بالسيد جمال الدين الأفغاني، رأس الإحياء الإسلامي ومُفتتح فكره الحديث؛ وأعيُننا مُعلَّقة بنصوص أخرى لا يُمكن وصفها بأنها أقل أهميَّة من نصوص المفكرين الكبار، وإنما هي نصوصٌ مهمة وإن بَدَت أقل شُهرة ومركزيَّة في فكرنا الحديث؛ ربما لأن بعضها اصطبغ بالصبغة الصحفيَّة، أو بالصبغة السرديَّة، أو أن صاحبه لم يُعرَف بكونه من مفكري الصف الأول إبَّان القرنين التاسع عشر والعشرين. بيد أنها نصوصٌ أفضل ما يُمكن أن توصف به هو أنها: "نصوصٌ تكميليَّة"؛ فلا يُمكن التعاطي مع نصوص المفكرين الكبار دون العروج عليها، واستيعابها، وإنزالها المنزلة اللائقة بها؛ لما تمنحنا إياهُ من أبعاد إضافيَّة لا يُمكن لنصوص كبار المفكرين أن تُزودنا به مُجرَّدة. فهي النصوص التي تُثري نصوص الكبار وتُكمل سرديتها، وتزيد مقدرتها التفسيرية، وتضعها في سياقها التاريخي الصحيح، وتُعظِّم فائدة المدوَّنة كلها في دراستنا لتاريخنا الفكري. وهذه النصوص قد يُنتجها أئمة أعلام كبار، من قامات الصف الأول في جيل أو طبقة؛ أعلام الثقافة والسياسة أو الصحافة والاقتصاد، وإن لم يكونوا من أعلام الفكر وفقهاء الحركة؛ الذين يُسترشَدُ بهم أو تَهتَدي الأمة بفكرهم.

وكتاب "ما هُنالك" لإبراهيم المويلحي مثالٌ جليٌّ على ذلك كله؛ فهو نصٌّ تكميلي مهم، أنتجهُ عَلَمٌ مُتفنن من أعلام المصريين وروادهم، إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهو ليس مُجرَّد نص تكميلي يُمكن الاستغناء عنه؛ بل هو نصٌّ تأسيسي محوري، سيُعيد بناء صورة الأيام الأخيرة للإمبراطوريَّة العثمانيَّة في ذهن القارئ العربي.

كتاب "ما هُنالك" لإبراهيم المويلحي مثالٌ جليٌّ على ذلك كله؛ فهو نصٌّ تكميلي مهم، أنتجهُ عَلَمٌ مُتفنن من أعلام المصريين وروادهم، إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهو ليس مُجرَّد نص تكميلي يُمكن الاستغناء عنه؛ بل هو نصٌّ تأسيسي محوري، سيُعيد بناء صورة الأيام الأخيرة للإمبراطوريَّة العثمانيَّة في ذهن القارئ العربي.

فقد أمضى المويلحي عشر سنوات في الأستانة يُراكم الخبرات، ويختزن الأحداث ويستوعبها، وينظُر في مآلاتها، ويصُبها جميعا في نسق لم يُفصح عنه مباشرة كعادة أكثر المفكرين الكبار؛ إذ تجلَّى كأنه مقالات صحفيَّة شبه مُنفصلة بعضها عن بعض، وإن اتَّحد موضوعها. بيد أن النسق الكامن، والمفصح عن الرؤية الجامعة، الذي سيجعل القارئ يُعيد بناء سرديته للأيام الأخيرة للعثمانيين؛ نسقٌ يتجسَّد بوصفه نمطا لسلوك الدول ونُخبها إبَّان سنوات انهيارها.

ورغم أن القارئ سيَلْقى نفسه مرارا في مواجهة تصريح المويلحي برغبته في إصلاح الدولة، واستقامة أمرها؛ فكذلك سنجد أن إدراكه الجلي أن الدولة قد حقَّت عليها سُنَّة الاستبدال، وأنها تسير في طريق الاضمحلال الحتمي؛ أمر أبرز من أن يُستدل عليه. بيد أن حنق أديبنا البصير وسخطه الحارق على الدولة ونُخبتها، لا يرجع إلى سيرها -القهري المحتوم!- في طريق الاضمحلال، بل مرجعه أنها صمَّت آذانها أصلا عن الناصحين جميعا، ثم أخذت تُطاردهم وتطردهم حتى اتَّخذتهم أعداء. وربما لو لمس المويلحي شيئا من الاستجابة، وقدرا من صدق العمل؛ لقلَّ حنقه على النخبة العثمانية الحاكمة، وتضاءَل سخطه على سلطانها، وربما لالتمس لها بعض العُذر فيما أصابها، بدلا من سخريته اللاذعة ونبرته الحانقة.

* * *

ولد إبراهيم المويلحي في أسرة من الأعيان أصحاب الثروة، وحين توفي الأب (1865م)، تولَّى إبراهيم أمور التجارة حينا؛ فازدهرت على يديه حتى صار عضوا في مجلس التجار. ثم غَلَب عليه الأدب بين مشاغل السياسة والإدارة والتجارة؛ فأسس "جمعيَّة المعارف" التي استهدفت نشر الكتب وتيسير اقتنائها، وذلك قبل أن ينشئ مطبعة باسمه (1868م)؛ فكانت من أوائل المطابع المصريَّة. وفي السنة الثانية لإنشاء تلك المطبعة الناجحة (1870م)؛ أسس جريدة "نُزهة الأفكار"، ولم يكُن في مصر يومئذ سوى "الجريدة الرسميَّة" وجريدة "وادي النيل".

وقد اندمج المويلحي في صف المضاربين في البورصة -حديثة العهد آنذاك-، وتقلَّب بين الربح والخسارة، حتى استنزف ثروة الأسرة (1872م)، وأُثقِلَ بالديون؛ ليُنقذه الخديوي إسماعيل نفسه. ولاحقا، سيمنحه الخديوي مصلحة تمغة المشغولات والمنسوجات على سبيل الالتزام، على أن يؤدي للحكومة جُعلا. ثم سيُعينه ناظرا للقلم العربي بنظارة الماليَّة، ثم عضوا في مجلس تسديد الديون السائرة. ولما تنازل إسماعيل عن الحكم (1879م)، ونفاه السلطان عبد الحميد؛ استَقْدَم الخديوي المويلحي ليصحبه في منفاه بإيطاليا، فاضطلع بوظائف سكرتيره العربي، ومعلم ابنه (لاحقا الملك فؤاد).

وفي عام 1880م؛ أنشأ المويلحي جريدة "الاتحاد" في إيطاليا، وأصدر منها ثلاثة أعداد شديدة اللهجة على الدولة العليَّة. وفي 1884م؛ سافر إلى پاريس ليصحب السيد جمال الدين الأفغاني، وهناك حرَّر العدد الرابع من جريدة "الاتحاد" بعد صمت استمر أربع سنوات، وكان أشد لهجة على السلطان من سابقاته. وقد حاول عبد الحميد إيقافها بواسطة الخديوي إسماعيل -كما فعل من قبل-، بيد أن الأخير تنصَّل، فما كان من السلطان إلا أن طالب فرنسا بنفي المويلحي من أراضيها؛ فاستجابَت، وانتقل إبراهيم إلى بروكسل، ثم لحق بالأفغاني بعدها في لندن.

وفي العاصمة البريطانية، أسس المويلحي جريدتين اصطبغتا بنقده العنيف لسياسة رئيس الوزراء البريطاني تجاه الدولة العليَّة. وحين علم السلطان بذلك؛ أرسل يستقدم إبراهيم بواسطة سفيره في لندن، لكنَّ إبراهيم أرسل ابنه محمدا -الأديب الشهير- ليستطلع الأمر مخافة كيد السلطان وغدره. ولما اطمأن، توجَّه صوب الأستانة، وكتب لعبد الحميد خطاب شكر على العفو السلطاني الذي ناله. ولما مثل بين يدي السلطان؛ عيَّنه عُضوا في "آنجمن معارف". وقد مكث إبراهيم في هذا الموقع عشر سنوات كاملة (1885-1895م) يُعاني فيها ما يُعانيه الأحرار.

وحين نفد صبره من جرَّاء شطط السياسة وإنهاكها في اأستانة، شرع يُرسل مقالات نقديَّة إلى جريدة "المقطَّم" المصريَّة؛ لتنشرها باسم مستعار. فلما علم السلطان بذلك عبر جواسيسه؛ أرسل إلى ناظر الضبطيَّة لاستجواب المويلحي، ولما أسفر التحقيق عن براءته لعدم وجود دليل مادي؛ استدعاه السلطان وأنعم عليه (في 1893م) برُتبة سعادتلو أفندم. وفي مطلع 1895م، كان قد سئم جو إسطنبول المسمَّم بالجواسيس والوشايات؛ فعزم على العودة إلى مصر، ودبَّر سفره في الخفاء على سفينة بخاريَّة حملته إلى الإسكندريَّة. ويبدو أن تحديد إقامة الأفغاني، ومنع النديم من العودة إلى مصر في العام نفسه؛ قد جعلاه خائفا يتربَّص ويسعى للفرار.

وقد نشر المويلحي أولى مقالاته -التي ضمَّها بين دفتي كتابه هذا- في 22 حزيران/ يونيو 1895م، وآخرها في الثامن من شباط/ فبراير 1896م. وقد اختار جريدة "المقطَّم"، الموالية للبريطانيين والمعادية للعثمانيين لنشر مقالاته، إذ لم تكن لتتحمَّل جرأتها أيَّ جريدة من الجرائد "الوطنيَّة"، وهو ما تجلَّى في مُصادرة الكتاب -بأمر من السلطان عبد الحميد-، الذي نشرته المقطَّم عام 1896م؛ بعنوان: "ما هنالك"، وكان يضمُّ سلسلة المقالات التي نشرها المويلحي كاشفا ما عاينه في الأستانة من عوار.

وفي عام 1898م، أنشأ مؤلفنا جريدة "مصباح الشرق"، ووَقَفَها للدفاع عن الملَّة وحقوق دولتها العليَّة؛ لتصير أهم جريدة في وقتها. وقد كان طلاب الأزهر يصطفون أمام أبواب المطبعة في انتظارها، وتُباع بقرش صاغ واحد. وكان يعز مطلبها في اليوم التالي لصدورها حتى تُشترى بخمسة قروش! وقد تتلمذ عليها عدد غفير من كبار الأدباء والكتاب أبناء القرن العشرين، وتركت بصمتها -مثلا- على البشري والمنفلوطي والعقاد.

* * *

لقد كان إبراهيم المويلحي سريع البديهة، قوي الإحاطة بخفايا السياسة وغوامضها، تقلَّب بين أعمال التجارة والإدارة الحكوميَّة، والصحافة والتعليم والسياسة -التي شحذ تنوعها ملكاته، وصقل شخصيَّته-، لكنَّه لم يبلغ الغاية قط في أي عمل مع شدَّة ذكائه وحدَّة ذهنه؛ إذ "كان يبدو على الدوام مُتعجلا الثمار، طامحا إلى نجاح سريع. وربما لو ثبت في عمل واحد لبلغ أوجه"؛ كما يُقرر حفيده صادقا.

لكنَّ هذه الخبرة العريضة، وهذه البصيرة النفَّاذة؛ جعلت تناوله النقدي لأحوال الدولة تناولا عمليّا بصيرا، مُحيطا بأمور قد يغفل عنها الكاتب الذي لم يُعاين دولاب الدولة بنفسه، ولا انخرط فيه. فهو يُشير -مثلا- إلى مُعاناة الأرمن واضطهادهم إشارات سريعة، لكنها تكشف بجلاء عن وعي بمآل هذا الاضطهاد وإدراك لتطوره الطبيعي. وهي إشارات تكشف عن سوء تعاطي الدولة مع الملف الأرمني (وغيره من ملفات السياسة الخارجيَّة!)، ومعاناة أهله أشد المعاناة؛ مما يجعل اطراد التعاطي إلى ما هو أسوأ أمرا معقولا ومتوقَّعا، ولن يصدُر من فراغ، خصوصا في ظلِّ الفساد المتجذِّر في الإدارة العثمانيَّة وإدارتها الكارثيَّة للواقع السياسي.

الحركة الكماليَّة -وما سبقها من إرهاصات-، لم تكُن محض مؤامرة، بقدر ما كانت رد فعل طبيعي نابع من السياق العثماني نفسه، ومُتسق كليّا مع السرديَّة الأصليَّة لاضمحلال الدولة، التي يكشف لنا المويلحي بعضا من ملامحها.

وقد بُنيت مقالات الكتاب على أساس التراتُب البيروقراطي العثماني؛ ذلك أنها فكَّكت نظام الحكومة، وتناولت واقع سلوك البيروقراطيَّة، وما ينبغي أن يكون! وكشفت طبيعة تسلُّط هذه البيروقراطيَّة على أجهزة الحكم، وأنه تسلُّط أمني محض. ومن هنا؛ خصَّص المويلحي مقالين مطولين لنظام التجسُّس العثماني الذي تغلغل في كل شيء، كما خصَّص مقالا للمشايخ/ الدراويش المتسلِّطين على عبد الحميد بالشعوذة وتعبير الرؤيا، وآخر للباش آغا؛ "الخويدم" الخصي الذي كان يُدير ملفات السياسة الدوليَّة! وقد خُتمت فصول الكتاب الثلاثة عشر بمُلحَق عن السلطان وحياته، وهوسه بأمنه الشخصي، ثم توثيق لعمليَّة خلع السلاطين وتأريخ لها، وهو ما يبدو للوهلة الأولى عجيبا؛ إن لم يُدرِك القارئ أن الكتاب موجَّهٌ أصلا للسلطان، وأنه تحذيرٌ -شبه صريح- من أن ينتهي إلى هذا المآل؛ الذي كان عبد الحميد يخشاه كخشية الله أو أشد خشية!

هذه السرديَّة التاريخيَّة "الجديدة"، التي يرسم المويلحي معالمها الرئيسة من داخل البلاط العثماني؛ ستحمل القارئ البصير على "إعادة مراجعة" سردية التاريخ العثماني التي درج عليها؛ إذ إن الملامح التي يسوقها لنا المؤلف في هذه المساحة المحدودة، تحمل مقدرة تفسيريَّة أعظم كثيرا من المقدرة المهلهلة التافهة لسرديَّة "المؤامرة الكاملة"؛ التي تصور الدولة العثمانيَّة على أنها "خلافة عفيَّة صالحة"، تكالب عليها الأعداء من كل جانب، وأسقطوها ظُلما وعُدوانا؛ رغم أنها لم تكن تستحق هذا المآل!

بيد أن أهم ما سيُضيفه هذا الكتاب إلى القارئ اليوم، إذا سبقه باطلاع على تاريخ التحديث العثماني؛ أن يُدرِك أن الحركة الكماليَّة -وما سبقها من إرهاصات-، لم تكُن محض مؤامرة، بقدر ما كانت رد فعل طبيعي نابع من السياق العثماني نفسه، ومُتسق كليّا مع السرديَّة الأصليَّة لاضمحلال الدولة، التي يكشف لنا المويلحي بعضا من ملامحها. فإذا كان مصطفى كمال مجرَّد ابن للمدارس الرشديَّة الحديثة؛ فإن موقفه السياسي والديني امتداد لها، واتساقٌ مع ما لاقاه من "مُمثلي" الإسلام الخونة، سواء المشايخ والدراويش المرتزقة الذين تحلَّقوا حول السلطان، أو "أشراف" مكَّة الذين رسَّخوا صورة قذرة مُنفِّرَة للعربي، ولمن يحمل عبء الإسلام ورسالته. فإذا أضفنا إلى ذلك كله عداوة الكماليين للفساد المتجذِّر عميقا في نظام السلطنة والخلافة، ومحاولتهم اجتثاث هذا الانحطاط؛ تبدَّى لنا موقفهم طبيعيّا ومفهوما ومتوقعا(1)، بل ومطلوبا.
___________
(1)- للمزيد حول مراحل إلغاء الخلافة؛ راجع: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، الفصل الثاني.


x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry