ثمة جدل متصاعد منذ أكثر من سنتين حول نشوء تحالف بين تيار "
الإسلام السياسي" والمشروع الأميركي في المنطقة، خصوصا بعد زيادة الاستقطاب حول الثورة السورية من جهة، وحول مسار التحول الديمقراطي في دول
الربيع العربي
بدأ التحول الدراماتيكي في العلاقات بين التيارات اليسارية والقومية من جهة، وتيار الإسلام السياسي من جهة أخرى، مع انطلاق الثورة السورية في مارس/آذار 2011 وانحياز معظم الأحزاب الإسلامية للثورة الشعبية السورية، في الوقت الذي انحازت فيه معظم القوى اليسارية والقومية للنظام السوري أو "الدولة السورية" في مواجهة "مؤامرة" دولية تحاك ضد سوريا باعتبارها إحدى ركائز محور المقاومة في المنطقة.لقد أدى هذا التحول إلى حالة من التنافر السياسي أعادت التاريخ خمسة عقود للوراء، حينما كان الصراع بين القوى القومية واليسارية وبين القوى الإسلامية وخصوصا "الإخوان المسلمون" على أشدها، بعد معركة كسر العظم بين جمال عبد الناصر والإخوان في
مصر، وبذلك أنهى هذا التحول عقدين من العلاقات الإيجابية والتحالفات السياسية بين الإسلاميين وبين القوميين واليسار العربي في مواجهة أنظمة الاستبداد التي لم تفرق بين تيار وآخر."
"وإضافة للاستقطاب حول سوريا، فقد تسببت الخلافات حول مسار التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي -مصر وتونس تحديدا- في تأجيج الصراع السياسي والاستقطاب بين القوى الإسلامية وبين التيارات اليسارية والقومية، وخصوصا مع النتائج الانتخابية الطيبة التي حققتها
التيارات الإسلامية في هاتين الدولتين، الأمر الذي أدى إلى افتراق القوى التي طالما وقفت جنبا إلى جنب في مواجهة الأنظمة الاستبدادية في مصر وتونس، والتي طالما توافقت على رفض ومقاومة سياسة هذه الأنظمة في التبعية والتماهي مع المشروع الأميركي في المنطقة. لقد أدى هذا الاستقطاب الشديد إلى استخدام "سلاح" الشعارات الشعبوية من كل طرف تجاه الآخر، فبينما اتهم الإسلاميون خصومهم بمحاربة "الهوية الإسلامية" والعداء للدين، فقد اتهم القوميون والعلمانيون خصومهم الإسلاميين بـ"خيانة" الثورة و"
التحالف" مع المشروع الأميركي في المنطقة.وفي ظل هذا الاستقطاب الشديد سواء على صعيد الموقف من الثورة السورية، أو الصراع السياسي في مصر وتونس بشكل خاص، فإن من البديهي أن ينظر إلى الاتهامات المتبادلة بين الفريقين ومنها تهمة " التحالف" بين التيار الإسلامي وأميركا على أنها أداة في الصراع السياسي لا أكثر، ولا يمكن بأية حال أن ترقى إلى درجة التوصيف المبني على البحث العلمي الرصين.
ولكن، ما هي الشواهد التي يطرحها متهمو الإسلام السياسي بالتحالف مع أميركا لتأكيد اتهاماتهم؟
شواهد سياسية
تستند معظم الشواهد السياسية التي تطرح للتأكيد على اتهام الإسلام السياسي بالتحالف مع أميركا إلى الموقف من الثورة السورية، حيث ترى معظم التيارات القومية واليسارية أن الإسلاميين عموما وعلى رأسهم "الإخوان المسلمون" بتأييدهم للثورة السورية إنما ينحازون للمؤامرة على "قلعة الممانعة" السورية، ويرتمون بأحضان المشروع الأميركي من خلال وسطائه في المنطقة: السعودية وقطر وتركيا!والحقيقة التي يجب أن يقر بها أي متابع للوضع في سوريا هي أن هناك مؤامرة فعلا على سوريا، ولكن المؤامرة ليست على النظام الذي سقطت شرعيته مع سقوط هذا العدد الهائل من القتلى من أبناء شعبه على يد قواته والعصابات التابعة المؤيدة له، وإنما المؤامرة العالمية هي على "الدولة السورية" بما تمثله من إحدى ركائز المنطقة العربية التي يمكن أن تشكل ممانعة أو مقاومة للمشروع الصهيو أميركي في المنطقة.ومن المثير أن مؤيدي النظام السوري لا يقرون بأن المسؤول عن فتح المجال للمؤامرات على سوريا هو النظام نفسه، الذي لم يستمع لنصائح أصدقائه -وهم بالمناسبة ممن يتهمون بالتآمر عليه اليوم- ويقصد بهم: تركيا وقطر وحركة حماس، الذين وقفوا مواقف معتدلة جدا في بداية الثورة، وحثوا الرئيس السوري على إجراء إصلاحات لتجنب خراب البلاد، ولو استمع إليهم الأسد في بداية الأزمة حيث كانت المطالب الشعبية محدودة جدا، لما أصبحت سوريا الآن "ملعبا" لكل أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، وهو ما يعني أن النظام هو الذي حول سوريا إلى خاصرة "رخوة" في المنطقة العربية، تمارس فيها وعلى حساب دماء شعبها أسوأ أنواع الصراعات الإقليمية والدولية."
"وإذا تناولنا موقف حركة حماس من سوريا، كمثال على التيار الإسلامي المتهم بالانحياز لمحور الاعتدال العربي المدعوم أميركيا، نجد أن الحركة ظلت على موقف أقرب للحياد من الأزمة السورية لمدة طويلة جدا، لدرجة أن مصداقيتها وشعبيتها أصبحت على المحك بسبب هذا الحياد، ولم تأخذ الحركة موقفا "منحازا" تماما للثورة السورية سوى بعد أن أصبح حجم الدماء والجرائم أكبر من كل الحسابات السياسية.
كما أن الحركة خاضت حربا ضروسا مع دولة الاحتلال بعد شهور متواصلة من حملة الاتهامات بالارتماء في أحضان أميركا، وحققت خلال هذه الحرب النصر الأكثر وضوحا في تاريخ الحروب والصراعات الفلسطينية مع الاحتلال، وهو الأمر الذي يعني أنها -حتى في ظل التزامها بالتهدئة- ظلت تعمل على زيادة قوتها العسكرية، واستخدمت هذه القوة في العدوان الأخير، وستستخدمه كما يبدو في أي حرب قادمة يشنها الاحتلال ضد قطاع غزة، ما ينفي تهمة السير في الفلك الأميركي عنها.أما الإخوان في مصر، فعلى الرغم من تأييدهم للثورة السورية، إلا أن أشد موقف اتخذه مرسي -بعيدا عن الخطابات- كان طرد السفير السوري من القاهرة، بينما ظل رافضا للتدخل الأجنبي ومؤيدا لحل عربي للأزمة، حتى في أشد خطاباته الحماسية أمام جمهور مؤيد للثورة السورية قبل أسابيع من عزله، فكيف يمكن وصف هذا الموقف بالتساوق مع الموقف الأميركي، وهو يؤكد حرصه على رفض التدخل الأجنبي.وإذا أخذنا موقف مرسي من العدوان على غزة كمثال على تعامل الإسلام السياسي مع قضايا المنطقة وهو في الحكم، نجد أن الرجل قدم مواقف داعمة للفلسطينيين، وقدم وجهة نظرهم في المفاوضات مع الاحتلال ودافع عن وجهة النظر هذه، بعد أن كانت مصر في عهد مبارك عرابا للموقف الإسرائيلي وضاغطا على الفلسطينيين في أي صراع.صحيح أن المطلوب من مرسي كان أكبر من هذا الموقف، ولكن الانقلاب العسكري أثبت أنه كان مقيدا خلال السنة التي حكم فيها، وأنه كان في حرب مستعرة مع الدولة العميقة بكل مكوناتها بما في ذلك قيادة الجيش، ما يعني أن قدرته على التحرك لم تكن كبيرة.
ويستدل بعض المنتمين للقوى اليسارية والقومية على التحالف بين الإسلاميين وأميركا بمواقف أردوغان، وهو استدلال يثبت عكس ما يقولون في الواقع، إذ أن تركيا -تحت حكم أردوغان- بالرغم من كل التحفظات على استمرار علاقاتها الاقتصادية مع "إسرائيل"، إلا أنها تتبنى مواقف متقدمة جدا من قضايا المنطقة إذا ما قورنت بكل الدول العربية."
"ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن توافق بعض المواقف السياسية بين تيارات الإسلام السياسي ودول محور الاعتدال لا يمكن بأي حال أن يمثل دليلا على تحالف الطرفين، وإلا فإن من السهل إيجاد شواهد على تحالف اليساريين والقوميين وحلفائهم مع المشروع الأميركي في المنطقة، كالقول إن إيران حليف لأميركا لأن مصلحتهما توافقت في إزاحة صدام واحتلال العراق، أو أنهما حليفان لأن إيران ساندت أميركا ضد طالبان، أو -وهو الأخطر- أن التيار اليساري والقومي العربي حليف لدول الاعتدال العربي وأميركا لأنه يؤيد بقوة الانقلاب العسكري الذي نفذه جيش مصر الصديق الوفي للولايات المتحدة و"إسرائيل"، وبدعم لم يعد خافيا من أميركا وأشد حلفاء وعرّابي المشروع الأميركي في المنطقة: السعودية والإمارات!شواهد أيديولوجية
لا تقتصر الشواهد التي يقدمها البعض لاتهام الإسلام السياسي بالتحالف مع أميركا على الجانب السياسي، بل يرى هؤلاء أن هناك أساسا أيديولوجيا لهذا التحالف، وهو أن الإسلاميين لا يعطون الأولوية في برنامجهم لمقاومة أميركا والصهيونية، بل إن أولويتهم الأولى هي لإقامة "الدولة الإسلامية" و" تحكيم الشريعة"، بغض النظر عن علاقات هذه الدولة المنشودة مع أميركا.ولكن القارئ لتاريخ حركات الإسلام السياسي يجد أن نشوء هذه الحركات أساسا قام لتحقيق هدفين: مقاومة الاستعمار وتحكيم الشريعة. ومن السهل أيضا إيجاد ملامح الخصومة والعداء بين الغرب والحركات الإسلامية بسبب الموقف من القضية الفلسطينية والاستقلال الوطني ومقاومة "التغريب" بمنهاج شامل ثقافيا وسياسيا.وبعيدا عن التاريخ الذي قد يحمل قراءات مختلفة حسب زاوية القراءة والخلفيات المسبقة، فإن المتتبع للتطورات التي حدثت في الخطاب السياسي والأيديولوجي للحركات الإسلامية يلاحظ أن فكرة "الدولة الإسلامية" قد بدأت تقترب شيئا فشيئا من "الدولة الوطنية"، وخصوصا في تنظيرات وبرامج الأحزاب المنضوية تحت مظلة "الإخوان المسلمون"، وهو الأمر الذي سبب نقدا كبيرا للإخوان من قبل التيارات الإسلامية الأخرى التي وصلت إلى حد اتهام جماعة الإخوان من قبل البعض بأنها أصبحت أقرب للأحزاب العلمانية.وبقراءة البرامج السياسية لكل من حزب حركة النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر والعدالة والتنمية في المغرب -على سبيل المثال- يلاحظ أن هذه البرامج تحفل بالمواد والمبادئ التي تكرس فكرة الاستقلال الوطني، والتكامل العربي، وامتلاك الإرادة الوطنية التي تؤهل هذه الدول للتعامل مع دول العالم بندية، الأمر الذي يناقض فكرة أن أيديولوجيا الأحزاب الإسلامية لا تهتم بالاستقلال الوطني ومقاومة المشاريع الاستعمارية في المنطقة.حرب التصريحات
من الشواهد التي تستخدم للدلالة على أن الإسلام السياسي هو حليف للولايات المتحدة ولمعسكر اليمين الأميركي، تلك التصريحات الغربية "القليلة" التي اعتبرت ما جرى في مصر انقلابا عسكريا وليس ثورة، وخصوصا تصريحات عضوي مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري ليندسي غراهام وجون ماكين."
"ولعل من المؤسف أن تمارس الأطراف السياسية المتصارعة في العالم العربي لعبة التصريحات المنزوعة من سياقها، والتغافل عن تصريحات أخرى مناقضة لوجهة النظر التي تتبناها. إذ أن تصريحات ماكين وغراهام لا يمكن نزعها عن التصريحات الرسمية الأميركية المؤيدة للانقلاب، ولا عن قرار الخارجية الأميركية الامتناع عن توصيف ما جرى في مصر لأسباب قانونية، ولا عن تصريحات رئيس هيئة الأركان الأميركية الداعم للجيش المصري والمؤكد أنه جيش صديق وحليف في المنطقة، ولا حتى عن تصريحات أخرى لماكين نفسه قال فيها إن مرسي ليس حاكما جيدا بالنسبة لأميركا، ولكن ما جرى هو انقلاب ولا يمكن تسميته باسم آخر.وفي إطار حرب التصريحات أيضا، ينسى المتابعون العرب -في غمرة بحثهم عما يؤيد وجهة نظرهم- أن الحكومات والرؤساء في أميركا والدول الغربية محكومون بقوانين وبمبادئ ديمقراطية، تجعل من الصعب عليهم أن يسوّقوا انقلابا عسكريا أمام شعوبهم، ولذلك فإنهم يبحثون عن حلول وسط، وهو ما جعل التصريحات الرسمية الأميركية والأوروبية تسكت عن وصف ما جرى بالانقلاب حتى لا تخفف من دعمها للجيش المصري، ولكنها في نفس الوقت لم تصفه بأنه "ثورة" حتى لا تغضب الرأي العام في بلدانها.إن نزع تصريح هنا أو هناك لإظهار أن اليمين الأميركي يؤيد الإسلاميين بسبب موقف بعض رموزه من الانقلاب هو مجرد "لعب" بالتصريحات، حيث يمكن للطرف الآخر (الإسلام السياسي) أن يأتي بعشرات التصريحات الأميركية والغربية و"الإسرائيلية" المؤيدة، بل المحتفية، بالانقلاب، للدلالة على أن التيار اليساري والقومي متحالف مع أميركا، إذ اتبعت نفس قواعد اللعبة!وختاما فإن الاتهامات الموجهة للتيار الإسلامي بالتحالف مع الولايات المتحدة ودول الاعتدال، لا تستند إلى أسس ثابتة، وإنما تأتي في إطار صراع سياسي وأيديولوجي محتدم، واستقطاب حاد بين التيارات العلمانية والإسلامية، يستخدم فيه كل طرف كافة الأدوات التي تضيع فيها الحقيقة والموضوعية والإنصاف.