فى أحد اجتماعات مؤتمر
دافوس الذى عقد عام 2005 بالبحر الميت (الأردن) لمناقشة سبل إنجاح السلام وتحقيق التعاون الاقتصادى فى الأراضى الفلسطينية، كان المشاركون مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين العرب والإسرائيليين. وخلال الاجتماع تركزت المناقشة حول عملية الإعمار المقترح تنفيذها لإنعاش الضفة الغربية. وجرى الحديث عن مشروعات للإسكان وخطط للتنمية الصناعية والزراعية، وما يمكن أن يترتب على تنفيذها من عمالة وزيادة فى الصادرات ورواج فى الأسواق.
وفى ختام الجلسة التى أثير فيها الموضوع طلب الكلمة افريام سنيه الذى كان آنذاك نائبا لوزير الدفاع الإسرائيلى. وشغل قبل ذلك منصب الحاكم العسكرى للضفة أثناء الانتفاضة الأولى (عام 1987). ومما قاله إن المناقشات التى جرت أثارت عديدا من الموضوعات المهمة، لكنها جرت فى الاتجاه الغلط. وشرح للجالسين أنه أثناء توليه منصبه فى الضفة كانت الأوضاع الاقتصادية فى أحسن أحوالها، وبلغ الانتعاش فى المجتمع الفلسطينى ذروة لم يبلغها من قبل، حتى منذ العهد العثمانى، الأمر الذى يعنى أن الناس لم يكونوا يعانون من قسوة الضغوط الاقتصادية وأعباء المعيشة، ومع ذلك انفجر غضبهم بشكل عارم فاجأ السلطة
الإسرائيلية.
(فى 8 ديسمبر من ذلك العام دهست شاحنة يقودها إسرائيلى سيارة كان يستقلها عمال فلسطينيون من جباليا، فقتلت أربعة منهم وجرحت آخرين، وأثناء جنازتهم قام المشيعون بإلقاء الحجارة على موقع للجيش الإسرائيلى فى جباليا، وكانت تلك الشرارة التى أطلقت ما عرف بانتفاضة الحجارة التى فجرت بركان الغضب فى الساحة الفلسطينية من الضفة إلى القطاع).
ختم الجنرال سنيه حديثه بقوله إن الاقتصاد مهم للغاية، لكن
الكرامة أهم منه عند الناس. وينبغى ألا ينسى الاقتصاديون والسياسيون هذه الحقيقة التى تعلمها هو من انتفاضة عام 1987. إذ الأكيد أنه لم تكن هناك مشكلة اقتصادية حقيقية فى الواقع الفلسطينى، ولكن المشكلة كانت فى شعور الناس بأن الاحتلال الإسرائيلى أهانهم وأهدر كرامتهم. من ثم فالتحدى الحقيقى والاستقرار الحقيقى لن يتوافر فقط من خلال إنجاح مشروعات التنمية الاقتصادية، ولكن مفتاح الاستقرار الأكبر يكمن فى إشعار الناس بأن كرامتهم محفوظة وأن كبرياءهم محل الاحترام.
حين سمعت القصة من بعض شهود الاجتماع لم يضايقنى فيها سوى أننى وجدت نفسى متفقا فى الرأى لأول ــ وربما آخرــ مرة مع كلام مسئول إسرائيلى. حتى قلت إن الرجل كان صادقا وأمينا فيما قاله وأنه وضع يده على نقطة بالغة الأهمية، تتجاهلها حكومة إسرائيل ويتجاهلها كثيرون من أهل السياسة، الذين يحاولون تجنب غضب الجماهير وامتصاص نقمتهم عن طريق استرضائهم بإغداق الأموال والعطايا عليهم، وينسون أن الناس تهمهم كرامتهم بأكثر مما يهمهم رغد العيش الذى يراد لهم أن ينشغلوا به.
في التجربة الجزائرية درس من هذا القبيل. ذلك أن بعض الحكام الفرنسيين تصوروا أن ثورة الجزائريين يمكن أن تهدأ إذا ما قامت سلطة الاحتلال بتنفيذ مشروعات الإسكان والتنمية، وظلوا لسنوات طويلة يتحدثون عن الجهود التى يبذلونها لحل المشكلات الاقتصادية التى يعانى منها الجزائريون، إلا أن بصيرة الجنرال شارل ديجول جعلته يدرك أن مشكلة الجزائر تحل باستقلال البلاد ورحيل فرنسا، أى من خلال إعادة الكرامة للجزائريين. وهو ما تحقق فى عام 1961.
ثمة لغط فى أوساط بعض المثقفين
الخليجيين حول هذه المسألة. وسمعت من بعضهم كلاما متواترا عن العطايا والمزايا التى تغدق عليهم بين الحين والآخر، وكيف أنها تلبى لهم أشواقا وطموحات كثيرة، ليس من بينها حقهم فى الكرامة. الذى يرونه متمثلا فى حظهم من المشاركة والمساءلة وفى الاحتكام إلى قانون يخضع له الجميع بلا استثناء، وفى التعامل معهم كمواطنين لهم صوت وليس كرعايا ليس أمامهم سوى الامتثال والخضوع.
تحضرنى قصة تجاهل مسألة الكرامة هذه كلما طالعت فى الصحف المصرية أخبار الإغراءات والعطايا التى تعرض فى المناسبات المختلفة على أهالى سيناء. وهى التى تتراوح بين هدايا الأغذية والخيام والبطاطين وبين وعود مشروعات التنمية التى يلوح بها المسئولون فى الحكومة المصرية بين الحين والآخر. ولا يشك أحد فى أن ما يقدم إليهم أو ما يوعدون به يلبى احتياجات قطاعات عريضة من أبناء سيناء، لكن ذلك كله لا يعوض الكرامة التى يفتقدونها، فى ظل عمليات القمع والسحق التى يتعرضون لها من جانب الأجهزة الأمنية التى تتعامل معهم بخشونة مفرطة لا تميز بين الأبرياء والمذنبين، وتعتمد سياسة «التمشيط» والتجريف التى تطيح بكل ما تصادفه وتعرض كثيرين لخسائر فادحة وإهانات لا ينسونها. وهو يشعر الناس بالهوان والانكسار، ويخلف ثأرات عميقة بينهم وبين السلطة وممثليها.
إن إشباع البطون والغرائز يرضى الحيوان فى الإنسان، ووحده الحفاظ على الكرامة هو الذى يشعر الإنسان بإنسانيته.
(عن صحيفة السبيل 20/11/2013)