دخل قاسم عواد السجن بعمر (19 عاما) ليخرج بعد عشرة أعوام وقد حصل على الشهادة الجامعية الأولى في العلوم السياسية من الجامعة العبرية. من يجلس معه ويحاوره يجده غزير الثقافة عميق التحليل لمجريات السياسة المحلية والدولية.
عواد، من بين آلاف الأسرى الذين حَولوا السجن إلى مدرسة، يتنفسون بين جدرانه
الإبداع والانجاز رغم المعيقات والتحديات؛ وبالإضافة إلى مواصلة دراسته في السجن إلا أنه طور من قدرته على القراءة لساعات طويلة دون كلل أو ملل، وكان له دور في نشر الثقافة وتعليم الأميين من الأسرى.
ويقول، أن إبداعات الأسرى تنوعت ما بين إبداع وانجاز فكري وثقافي وتقني وفني، فالسجون ضمت عبر تاريخها لجانا متنوعة عند كل فصيل سياسي لتسيير أمور الأسرى وفق برنامج يومي منضبط.
الأسرى صنعوا الإبرة
وأوضح عواد، أن الأسرى استفادوا من الأشياء البسيطة لعمل أدوات حرموا منها، فمثلا حَوّل الأسرى "عمود كهرباء تسخين الماء" إلى "كاوي لحام"، كما جعل الأسرى من أيدي الملاعق سكاكين تستخدم في الطهي، وجعلوا من مخلفات علب السجائر براويز وسفن مزركشة وأشكالا جميلة، ومن "نكاشات الأسنان" براويز خلابة، كما أتقنوا صناعة الإبرة، وإعادة استخدام الخيوط الموجودة في أكياس البصل لاستخدامها في الخياطة.
وتابع المحرر عواد، أن الأسرى أتقنوا تنظيم الكهرباء الخارجة من مولد كهربائي باستخدام قطعة صغيرة تكون موجودة في الأدوات الكهربائية التالفة، كما تفننوا في صنع المأكولات وخلق البدائل في ظل سوء نوعية الطعام الذي تقدمة إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية.
إبداعات متباينة
ويرى الباحث في مؤسسة التضامن احمد البيتاوي أن إبداع الأسرى يعني: تحدي الأسير
الفلسطيني لظروف اعتقاله الصعبة وعمل شيء إيجابي يستفيد منه هو شخصيا أو على المستوى العام سواء داخل السجن أو خارجه، والإبداع يختلف ويتفاوت منه ما هو بسيط ومنه ما هو كبير.
واعتبر أن المظاهر الإبداعية داخل سجون الاحتلال تتنوع، فبعض الأسرى دخل السجن وهو أُمي لا يقرأ ولا يكتب، وخرج منه وهو يحمل شهادة جامعية عليا كالدكتور النائب في المجلس التشريعي ناصر عبد الجواد والدكتور عمر جعارة، كما أن هناك عشرات الأسرى والمحررين ممن ألفوا مئات الكتب بمختلف الموضوعات، كالأسير وليد خالد ومحمد صبحة وعبد الله البرغوثي، والأسير الشاعر باسم الخندقجي الذي ألف العديد من الدواوين الشعرية وهو داخل السجن، والأسرى المحررون: النائب حامد البيتاوي وسلطان العجلوني ووليد الهودلي وجلال رمانة وحسام بدران والصحفيين نواف العامر وأمين أبو وردة وغيرهم الكثير، والحديث عن أدب السجون طويل ولا ينتهي وتكفي الإشارة إلى وجود مكتبة خاصة تابعة لمركز الشهيد أبو جهاد خاصة بإبداعات الأسرى الأدبية.
ويضيف البيتاوي، أن من الحالات الإبداعية أيضا تعلم الأسير لإحدى اللغات وخاصة اللغة العبرية والانجليزية، فالكثير من الأسرى المحررين أصبحوا يتقنون اللغة العبرية وبعضهم أصبح مختصا في الشأن العبري كالأسيرين المحررين فراس جرار وعلاء أبو خضر، وبعض الأسرى أيضا أتموا حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكام التجويد وفنون الخطابة، وبعضهم أتقن فنون الطبخ وإعداد الطعام وصنع الحلويات، ومنهم من فتح مطعما بعد الإفراج عنه، وبعض الأسرى تعلم صناعة الأشغال اليدوية وفنون الخياطة والتطريز، ومنهم من أجاد داخل الأسر إحدى الألعاب الرياضة ككرة الطاولة والطائرة والشطرنج.
حفر في الصخر
وأوضح البيتاوي، أن هناك تحديات عدة تواجه الأسرى، التحدي الأول: هو إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية التي تحاول التضييق عليهم من خلال حرمانهم من إكمال التعليم ومنع إدخال الكتب وتقوم في كثير من الأحيان باقتحام غرف وأقسام الأسرى وتدمير بعض انجازاتهم الأدبية والعملية، كما تقوم بحملات تنقلات بين الفترة والأخرى وتنقل الأسير من سجن إلى آخر بهدف جعله في حالة توتر وعدم استقرار نفسي، لأن الإبداع يتطلب نوعا من الاستقرار.
ويشير الباحث في شؤون الأسرى إلى أن جميع أشكال الإبداع التي سبق ذكرها كان الأسرى ينتزعونها انتزاعا من بين أنياب الاحتلال، ولم يسمح لهم بها ببساطة، بل هي نتيجة عشرات الإضرابات والخطوات الاحتجاجية.
أما التحدي الثاني بحسب البيتاوي: فيرجع للأسير نفسه، فالكثير من الأسرى لا يستفيدون من أوقات فراغهم الكبيرة ويقضون معظمها في مشاهدة التلفاز ولعب الشدة والنوم وغيرها من الأمور الغير هامة، فالإبداع يتطلب إصرارا وإرادة من قبل الأسير أولا وأخيرا ثم تأتي العوامل الأخرى لتعزز هذا الإبداع أو تقتله.
ويتفق مدير مركز أحرار لدراسات الأسرى فؤاد الخفش مع البيتاوي، فالأسرى ليسوا سواءً في الإبداع والانجاز، فهناك من يدخل السجن ويضع أمام عينيه هدفا يريد أن يصل إليه ويحققه، وهناك حالات كثيرة من أصحاب الانجازات من سخر كل وقته مثلا لحفظ القرآن، ولجأ إلى أشخاص ذوي خبرة حتى وضع برنامجا وأتم الحفظ؛ وهناك من قرر على سبيل المثال إتقان اللغة العبرية وقطع شوطا كبيرا من أجل ذلك وطور اهتمامه والتحق بالجامعة العبرية واستطاع أن ينتزع شهادة البكالوريوس، رغم صعوبة الدراسة باللغة العبرية، وبعض الأسرى أطلقوا حملات تعليمية وتثقيفية منظمة.
ويؤكد الأسير المحرر قاسم عواد، أن الاحتلال أراد السجن مقبرة للمعنويات وتحطيما للأحلام، ليكون الأسير قدوة سيئة لغيره عندما يخرج، إلا أن الأسرى الذين يدركون أهداف الاحتلال تمكنوا من التمرد عليه وأصابوه بالخيبة.