يعتبر تحرير المعركة وعناوينها وتوصيفاتها هو أهم وأكثر النقاط الحساسة في أي صراع قائم. فمنذ يناير 2011 وصولا إلى يونيو2013 سعى النظام دوما للتلاعب بعناوين المعركة ومواضيعها ليس عن طريق فرض معارك يجر الصراع لها فحسب، بل وعن طريق رجاله المدسوسين في جانب الثورة والذين اتضح قدر كبير منهم مؤخرا، حيث كان يتم فرض عناوين لمعارك الثورة تمتاز بعدة مواصفات تحقق للنظام مكاسبه وتقلل خسائره.
وقد كان النظام في كل تلك الفترة يفرض عناوين المعركة وتفسير الصراع الذي يريد من خلال وسائل إعلامه ورجاله، وعبر إعطاء المساحة لخطاب المعركة التي يريد ترويجه، وتمكّن بذلك من الدفع دوما باتجاه مصطلحات مرنة وفضفاضة للصراع تبدو وكأنها ذات سقف عال ثوري وقدرة صدامية كبيرة، بينما هي في حقيقة الأمر عبارة عن سحابة دخان كبرى تشوش العناوين الأكثر وضوحا ومقدرة على توليد صراع مادي قوي وحقيقي. وكان النظام يصنع لكل ميدان معركة تشكل خطرا عليه ميدان معركة أخرى ثورية موازية بحيث يشتت مقدرة أي منهم على تحقيق تقدم حقيقي.
وبعد أن طويت مرحلة مابعد بناير ودخلنا في أطوار ما بعد يوليو، أصبح الحراك الذي يواجه الانقلاب العسكري في
مصر يمتلك منظومة (مرجعية الحق)، وينطلق في حراكه للشارع من مرجعيات متعددة، لكن ا?مر الثابت الذي يمثل المبرر الحقيقي للثورة والمواجهة هو ثلاثية (حق الدم - الحق السياسي - الحق القانوني).
فشعار "رابعة" الذي يمثل في حقيقته أيقونة الدم المسال تحت جنازير الدبابات والمدرعات وبرصاص الحيش والشرطة، يعبر في رمزيته عن عمق الخصومة التي كان "الجيش" قبل الشرطة طرفا فيها ومتلوثا بعارها، وبالتالي فهو يهدم في الوعي الكامن للحراك فكرة "الدولة" ذاتها القائمة على الارتباط بينها وبين مصير المؤسسة العسكرية، فالعسكر أصبحوا طرفا مقصودا بالثأر حتى لو بمنطق "السلمية"، ولم يعد وعي "رابعة" يمكنه تصور طرف آخر رئيس في معركة الثأر والدم غيره، لذلك هناك سعي لمن يرغب في تفكيك هذا المركب النفسي من الصراع وتهيئة الطرف المغدور لقبول الجيش مرة أخرى كلاعب سياسي عبر محورين، الأول: صناعة معركة بديلة تكون الداخلية هي الطرف الرئيسي فيها ويتحول الجيش لاحقا فيها لحكم بين المتصارعين، الثاني: حث الطرف المتبني لخصومة الدم عبر عمليات من الاحتيال السياسي للتنازل عن الشعار مقابل شعارات ثورية فضفاضة لا تمتلك منظومة "حق" كالدم، وبهذا تكون مجرد عملية تركيب للوهم بدلا من الحقيقة .
أما الحق السياسي / "الانقلاب العسكري" فهو أحد أهم مرجعيات الحق الذي يعلل الحراك ضد العسكر والنظام السياسي المتكون مابعد 3 يوليو ورفضه تماما. فتعريف كلمة انقلاب تعتبر مبررا سياسيا قويا للمضي في معركة الثورة لنهايتها ضد النظام العسكري الجديد، وكذلك فإن تصدير كلمة انقلاب دوما تجعل صاحب المعركة غير قادر على التعامل مع أي منظومة منبثقة عنها، ولا يقبل الدخول في منظومة التنافس السياسي الخاصة به، ولا في معاركه الجزئية، فيصير تعريف الانقلاب كحق سياسي تستند إليه الثورة يشكل ضمانة هامة تمنعها من الانجرار لحلول وسط وحلول تمييع تنتهي بالقضية إلى غياهب اللاشيء، ولذلك يسعى النظام ورجاله لجر
الإخوان للاعتراف بالوضع السياسي الجديد وليس شرطا التصالح معه بل من الممكن استمرار الصراع على جزئياته، كقانون التظاهر ومواد الدستور ومظلومية القمع إلى آخره مما يضمن بقاء النظام لا إسقاطه.
وبالعودة لمرجعية "الحق القانوني"، فهو مفهوم أحقية مرسي بمنصب الرئاسة، ومرجعيته في ذلك منظومة الشرعية القانونية القائمة على انتخاب والتي لا يمكن نزعها إلا بمثيلها وليس بانقلاب عسكري يظل طول فترة بقائه مفتقدا لأي مقوم أو مبرر قانوني لوضعه السياسي ويجعله محل تجريم من القانون والدستور، وبالتالي تظل هذه الأحقية أيضا عصبا مهما في تعريف الحقوق "المادية" للثورة.
لقد أقام النظام العسكري نظامه الجديد عبر إراقة دماء الآلاف/ "حق الدم"، وعبر انتهاك الوضع القانوني/ "الحق القانوني"، وعبر عملية انقلاب عسكري بقوة الدبابة واختطاف الوطن/ "الحق السياسي"، وهو يسعى الآن لتثبيت نظامه عبر تفكيك حجج الخصم ومرجعيته في الخصومة، وذلك من خلال السعي لدفعه للتنازل والاعتراف بالوضع الجديد والدخول في اللعبة السياسية، أو عن طريق دفعه لمعركة ثورية تبدو في ظاهرها أكبر وأقوى؛ يتخلى فيها الخصم عن كل مبررات ثورته الحقيقة لصالح عنوان توافقي وهمي سرعان ما ينهار أمام ضربات الواقع، ليجد الإخوان أنفسهم وقد تخلوا عن محركات الحق، وتخلى عنهم أيضا الحراك التوافقي لاحقا، فلا هم حينها حققوا خصومة مع النظام تستند لمرجعية الحق ولا حققوا ثورة توافقية وهمية !!
لذلك حذرنا مرارا من لعبة التنازلات والتوافقات التي تمس محددات القضية، لأنها في حقيقتها تقود لتصفية القضية على يد أصحابها دون أن يشعروا.