تستقبل
مصر العام الجديد على أعتاب مستقبل مجهول، في ظل تصاعد الأزمة التي أعقبت انقلاب الجيش على أول رئيس منتخب في التاريخ المصري الحديث، وبعد تفجير دموي قتل وجرح العشرات وصفه مراقبون بأنه تحول إلى جزء من الدعاية "الإنتخابية" لترشيح وزير الدفاع المصري عبد الفتاح
السيسي رئيسا لمصر.
ويقول مراقبون إن شراسة الإنقلابيين في مواجهة القوى المناهضة للانقلاب والمؤيدة للشرعية، تصاعدت على نحو غير مسبوق، بعد تقديرات استراتيجية تقول أن الاستفتاء على دستور الانقلاب لن ينجح بدون هذه الشراسة، خاصة وإن جميع استطلاعات الرأي التي أجرتها المواقع الإلكترونية للصحف المصرية أظهرت تقدم الإخوان المسلمين، وتراجع الإنقلابيين، أو لم تبعث على الإطمئنان أن الاستفتاء سيأتي بما يشتهي الإنقلابيون والقوى المؤيدة لهم، لهذا كان لا بد من تصعيد "أمني" قيل أنه مفتعل لمنح السلطة المؤقتة مزيدا من مساحات الحركة، وصولا إلى ما أعلنته من إدراج جماعة الإخوان المسلمين في قائمة الجماعات الإرهابية.
ولئن كانت هناك بقايا أمل في أن تخفف مؤسسة الدولة في مصر من حملتها على المعارضة بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي .. فقد ذهبت أدراج الرياح عقب التفجير الانتحاري الذي استهدف مديرية أمن الدقهلية يوم الثلاثاء وأوقع 16 قتيلا ونحو 140 مصابا، بغض النظر عمن قام بهذا التفجير.. خاصة وأنه مع كل تفجير أو اعتقال تزداد ضآلة الديمقراطية المأمولة.
وتقول الحكومة المدعومة من الجيش إنها ستعيد البلاد إلى طريق الديمقراطية وتشير إلى أن الدولة تغلبت على من أسمتهم "المتشددين" الإسلاميين حين أطلقوا موجة هجمات دامية في التسعينات. غير أن الساحة تعج هذه المرة بسلاح أكثر عددا وأيديولوجيات أشد تنوعا إضافة إلى تجربة ديمقراطية مريرة مما يدفع كل طرف للتشدد في موقفه.
كان تفجير مديرية أمن الدقهلية هو الأشرس بين موجة الهجمات التي تلت عمليات المتشددين في التسعينات. كما أن أسلوب استهداف قوات الأمن بتفجيرات انتحارية هو أقرب للعراق أو سوريا منه إلى مصر التي كانت رغم ما شهدته من موجات تشدد من الدول العربية الكبرى القليلة التي لم تذق مرارة الحرب الأهلية في عصرها الحديث.
وأعلنت جماعة أنصار بيت المقدس ومقرها شبه جزيرة سيناء مسؤوليتها عن تفجير الدقهلية بعد أن صعدت هجماتها على أهداف حكومية في الأشهر الأخيرة ونفذت محاولة لاغتيال وزير الداخلية في سبتمبر أيلول.
وبعد تفجير الثلاثاء هاجمت حشود متاجر ومنازل وعربات أناس يعتقد أنهم من مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي لها الرئيس المنخب.
وقال محمد هيكل وهو أحد نشطاء جماعة الإخوان في مدينة المنصورة التي شهدت تفجير الثلاثاء "بعد تشييع جنازة الشهداء حطم أناس غاضبون صيدليتي ومحل أخي... لا علاقة لنا بما حدث." ووصف التفجير بأنه هجوم إرهابي.
واليوم قال متحدث باسم وزارة الداخلية لرويترز إن أربعة أشخاص أصيبوا في انفجار قنبلة قرب حافلة في القاهرة وإنه تم إبطال مفعول قنبلة أخرى. وأظهرت لقطات بثها التلفزيون المصري نوافذ الحافلة وقد تهشمت.
وقد بات الحديث عن المصالحة ضربا من الأوهام في ظل دعاية رسمية محمومة لاقتلاع جذور الإخوان. ولا يرى محللون فرصا كثيرة إن كانت هناك فرص أصلا لاتفاق سياسي يشيع الاستقرار في بلد تتقاذفه الاضطرابات منذ تنحي حسني مبارك تحت ضغط شعبي قوي في 2011.
وعلامات التصعيد كثيرة. فقد أحيل مرسي وقيادات أخرى بارزة في جماعة الإخوان للمحاكمة باتهامات يمكن أن تصل عقوبتها للإعدام. فهم متهمون بالتخابر مع جهات أجنبية لتنفيذ مخطط إرهابي يستهدف مصر. وأعلنت حكومة رئيس الوزراء حازم الببلاوي رسميا الأربعاء جماعة الإخوان المسلمين جماعة "إرهابية" متهمة إياها بأنها وراء هجوم الدقهلية، رغم عدم وجود أي إثباتات على هذا الاتهام.
من ناحية أخرى يشير تكرار الهجمات إلى أن من يسمون بالمتشددين يتوغلون في مركز الحركة الإسلامية مما يقلص الآمال في التوصل لمصالحة مع المعتدلين فيها ويقوي شوكة الصقور بالحكومة.
ومما قد يترتب على هذا زيادة فرص الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة لأن يتولى رئاسة البلاد، وهو ما يسعى إليه منذ زمن، ويبدو أنه مع كل حالة زعزعة لأمن المجتمع تزداد فرصه في تولي الرئاسة، ما يلقي بظلال من الشك على الجهة التي تشعل نيران العنف، كون الجهة المستفيدة من هذا التصعيد هو قائد الإنقلاب الذي يتطلع شوقا لتسلم رئاسة البلاد، على الرغم من أن القائد العسكري الذي عزل مرسي ما إن كان سيرشح نفسه للرئاسة أم لا. ورغم أن فوز السيسي بالرئاسة يكاد يكون في حكم المؤكد إن هو قرر الترشح ذكر مصدر عسكري أنه متردد في اتخاذ هذا القرار لأسباب منها جبل المشاكل الذي سيقع على عاتق الرئيس القادم. لكن المحللين يقولون إن تصاعد وتيرة العنف يقلل من ثقة السيسي ومن حوله بأحد غيره في سدة الحكم، وهم ما يؤيد وجهة النظر التي ترجح تقصد تأزيم الوضع الأمني خدمة لمخططات السيسي.
وقال مايكل وحيد حنا الخبير في مؤسسة (ذا سينشري فاونديشن) للأبحاث في نيويورك "كلما تأزم الموقف تضاءلت قدرة أي مرشح مدني على الإمساك بزمام الأمور... هذا التدهور سيزيد "الضغوط!" على السيسي للترشح."
أكبر عدد قتلى بين الجنود منذ حرب 73
وقد رفعت الحشود التي تجمعت خارج مديرية أمن الدقهلية بعد هجوم الثلاثاء صورة السيسي.
ومصر لم تكن على مدى عقود بمعزل عن العنف حتى أن الرئيس أنور السادات اغتيل في احتفال عسكري عام 1981 وضربت هجمات على مواقع سياحية في التسعينات الاقتصاد المصري بقوة.. لكن دائرة العنف بلغت الآن مستوى غير مسبوق.
والتقديرات المتحفظة لأعداد القتلى منذ الانقلاب على مرسي تشير إلى سقوط ما يزيد عن 1500 قتيل معظمهم من مؤيديه. كما سقط ما لا يقل عن 350 قتيلا من أفراد الأمن في تفجيرات وإطلاق رصاص.
وعانى الجيش أكبر خسائره البشرية منذ حرب عام 1973 وسقط معظم قتلاه في سيناء حيث يتمركز أشد الإسلاميين تسليحا.
وأعاد المشهد إلى الأذهان ما حدث في الجزائر التي انزلقت عام 1991 في صراع امتد عشر سنوات بعد أن أجهز الجيش على تجربة ديمقراطية وليدة كاد الإسلاميون أن ينتصروا فيها.
غير أن المخاطر تزداد مع اتساع دائرة الهجمات لخارج شبه جزيرة سيناء وبخاصة مع تهريب كميات كبيرة من السلاح من ليبيا بعد سقوط معمر القذافي في 2011 في حرب وضع فيها المعارضون لحكمه أيديهم على مخازن السلاح.
وقال مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة "هذا الحدث بالذات يظهر أن الجماعة التي عملت بالمنصورة منظمة جيدا ومجهزة جيدا وقادرة."
وأضاف "هذا يشير إلى صعوبة الوصول لأي نوع من التسوية بين الحكومة والجماعات الإسلامية."
الحريات في خطر
لا يفتأ الإخوان في ترديد دعوتهم للمقاومة السلمية وينفون تحولهم إلى العنف.
وتشجع الجماعة حملة احتجاجات بالجامعات يشتبك فيها أنصارها عادة مع قوات الشرطة.
لكن مع فشل هذه الاستراتيجية في ترك الأثر المرجو يلوح خطر أن يتمكن التيار الراديكالي من مؤيديها مما يهدد الجماعة نفسها.
ويعتقد المحللون أن المؤسسة الأمنية تتحكم بقوة الآن في مسار الحكومة وباتت تملك من جديد هيمنة سياسية انحسرت بقوة بعد ثورة 25 يناير كانون الثاني 2011. ويرى نشطاء أن الحريات التي كانت من مكتسبات هذه الثورة في خطر.
وقد صعدت الدولة من حملتها على المعارضة. وفي 22 ديسمبر كانون الأول صدر حكم على ثلاثة نشطاء مدنيين بارزين بالسجن ثلاث سنوات لخرقهم قانونا فرض قيودا شديدة على إمكانية التظاهر ووجه ضربة قوية لمفجري شرارة ثورة 2011.
وقال ناثان براون أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن "نرى اليوم جهازا أمنيا يبدو خارجا عن نطاق السيطرة فعليا.. يلاحق أفرادا وجماعات يكن ضغائن لها."
وتابع "نسمع أحيانا أصواتا هامسة تقول إن هناك في القيادة من يخشى أن يفضي اللجوء لأعمال صارمة إلى انقسامات سياسية أسوأ وإنه يجب أن يكون هناك قدر من التخفيف للعملية الأمنية.
"وجاء هذا التفجير فنسف تلك الفكرة."
وقال النشط الليبرالي خالد داود إن موجة هجمات المتشددين ستكتم صدى النداءات الداعية للمصالحة. وظل داود يدعو لمصالحة سياسية حتى بعد أن طعنه مجهولون في أكتوبر تشرين الأول الماضي. وقال "أي بلد يحدث فيه إرهاب يشهد انحسارا للحريات العامة ولآمال الديمقراطية. إنه قانون الجاذبية."
السيسي وصورة "المخلص"
وفي السياق نفسه، قال الفريق أول عبدالفتاح السيسي، "إن مصر ستقف صامدة في مواجهة الارهاب، ولن يخاف الشعب أبدا طالما الجيش موجود" وذلك عقب تفجيرين تعرضت لهما البلاد خلال أقل من 3 أيام وأسقطا جرحى وقتلى، وبدا أن الجنرال الطامح لحكم الباد قد تحين الفرصة للظهور العلني، بعد غيبة طويلة، ليبدو بصورة القائد الذي سيخلص البلاد مما تعانيه من اضطراب منذ الإنقلاب الذي قاده على اول رئيس مدني منتخب في التاريخ المصري.
وجاءت كلمة للسيسي الخميس أثناء حضوره حفل تخريج دفعة عسكرية في القاهرة، بحسب بيان للمتحدث العسكري باسم القوات المسلحة العقيد أحمد محمد علي، عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
وقال السيسي في كلمته إن "مصر ستقف صامدة في مواجهة الإرهاب وما يحدث لن يهز مصر وشعبها، ولن يخاف الشعب أبدا طالما الجيش المصري موجود"
وأضاف مخاطبا المصريين: "لا تدعوا هذه الأحداث الإرهابية الغاشمة تؤثر فيكم أو في روحكم المعنوية، فنحن علي الحق المبين، أردتم الحرية والاستقرار، وهذا لن يأتي بسهولة، ولابد لكم من الثقة في الله وفي أنفسكم وفي جيشكم والشرطة المدنية، وبأننا قادرون علي العبور بمصر نحو الاستقرار والأمن والتقدم"..
ويرى مراقبون أن خطاب السيسي يعد بمزيد من التأزيم، ما يعزز فرصه في تولي رئاسة البلاد، ولعل هذا ما تسعى إليه القوى المحلية والإقليمية التي أيدت الانقلاب ودعمته ومولته.