كتاب عربي 21

القاعدة وإيران.. انتهت المتعة والطلاق بائن

1300x600
لا جدال بأن الثورة السورية عصفت ببعض التحالفات وبدّلت جملة من الرهانات. ويبدو أن العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة التي تعتبر واحدة من أكثر العلاقات التباسا وغموضا على الإطلاق قد تغيّرت إلى الأبد، فعلى الرغم من الاختلاف الإيديولوجي العقدي المذهبي بين الطرفين إلا أنهما احتفظا تاريخيا بعلاقات ودية نسبيا وتعاون حذر دوما على أسس مصلحية جيوسياسية؛ إذ تنتمي إيران إلى فضاء تاريخي أيديولوجي شيعي ينتسب إلى مذهب "الإثني عشرية"، أما القاعدة فتنتمي إلى فضاء تاريخي أيديولوجي سني ينتسب إلى السلفية الجهادية. ولا يخفى أن العلاقات بين السنة والشيعة تميزت بالعداء والتنافر تاريخيا واتجهت نحو مزيد من الشك والريبة والعداء عقب قيام الثورة الإيرانية عام 1979، إلا أن الطبيعة المعادية للسياسة الدولية تجاه إيران والسلفية الجهادية فرضت تحالفا موضوعيا بين الأخوة الأعداء، فقد تبنت السياسة الخارجية الإيرانية نزعة براغماتية في التعامل مع حركات المقاومة السنية في المنطقة وخصوصا الحركات التي تنتمي إلى الفضاء السني الفلسطيني، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي،  وقد سعت إيران منذ الثورة إلى احتضان الحركات الإسلامية المسلحة المناهضة للأنظمة العربية والمعادية للغرب.

في هذا السياق تنظر السياسة الخارجية الإيرانية إلى الحركات الإسلامية الراديكالية والسياسية باعتبارها جزءا من تيار "الممانعة والمقاومة" في المنطقة، وتحاول الاحتفاظ بعلاقة ودية معها لمواجهة المشروع الأمريكي والإسرائيلي، ومع ذلك فإن إيران تتطلع إلى تحقيق مصالحها القومية في المقام الأول، الأمر الذي يضفي مزيدا من الغموض حول الأهداف الحقيقية للمشروع الإيراني في المنطقة، إذ تشبه العلاقة مع تنظيم القاعدة اللغز، وتتغلف بالغموض والالتباس؛ فالإطار الجامع بين الطرفين ظهر بوضوح عقب الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998. لقد أدت التطورات الدراماتيكية في العلاقات الدولية إلى سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، وانفراد الولايات المتحدة كقطب وحيد في إدارة  المنظومة الدولية، وهو التطور الذي أدى إلى تغيرات جوهرية في تحديد الأولويات والمصالح الكونية ومنظومة الأعداء، ومع صعود نجم المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ظهرت نزعة إيديولوجية عدائية حادة للحركات السلفية الجهادية وللنظام الإيراني، وبدأت الولايات المتحدة بالاعتماد على مبدأ "الحروب الاستباقية"، وفي المقابل طورت السلفية الجهادية وممثلها تنظيم القاعدة إستراتيجية قتال "العدو البعيد"، وهي اللحظة التي شهدت تقاربا أكثر بين إيران والقاعدة.

وظهرت بعض إرهاصات العلاقة مبكرا، فقد بدأت محاولة بناء علاقة بين الطرفين في السودان عام 1991، عندما كان بن لادن والظواهري يتخذانها ملاذا إبان تولي البشير والترابي لمقاليد السلطة، إلا أن زيادة الضغوط على السودان أمريكيا وعربيا حملت بن لادن ومن معه على العودة إلى أفغانستان مع ظهور حركة طالبان التي تمكنت من بسط سيطرتها على معظم الأراضي الأفغانية بحلول عام 1996، وفي هذا السياق شهدت علاقة حركة طالبان مع إيران توترا خطيرا، سيما أن انطلاق حركة طالبان جاء على قاعدة توافقية باكستانية أميركية، وتزامن مع انتهاج الولايات المتحدة لسياسة "الاحتواء المزدوج" تجاه إيران والعراق، وتسليط الضوء على الصناعات العسكرية الإيرانية غير التقليدية، واعتماد واشنطن قانون "داماتو" الذي يهدف إلى محاصرة طهران اقتصاديا وعزلها سياسيا، وقد بلغت العلاقات بين إيران وطالبان حافة الهاوية بعد مقتل الدبلوماسيين الإيرانيين في مدينة مزار الشريف عام 1998، وإرسال إيران ما يقارب مائتي ألف جندي إلى الحدود الأفغانية. وعلى خلفية هذه التطورات، بدأت إيران في انتهاج سياسة حذرة تجاه تنظيم القاعدة، إذ اعتمدت نهجا براغماتيا، تحكمت فيه معادلة توازن القوى الداخلية بين الإصلاحيين والمحافظين.

شكلت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 منعطفا حاسما في طبيعة العلاقة بين القاعدة وإيران، فقد أسفرت الهجمات على نيويورك وواشنطن عن دخول الولايات المتحدة وحلفائها من قوات الناتو والإيساف إلى أفغانستان ودحر حركة طالبان وتشتت تنظيم القاعدة، وفي إطار سياسة الحرب على الإرهاب ومطاردة القاعدة وطالبان لجأ عدد من قيادات وأفراد وعائلات القاعدة إلى إيران، التي عملت على تصنيف اللاجئين في إطار سياسة بناء تحالفات واحتواءات، إذ تعاملت إيران بدهاء شديد مع الولايات المتحدة وخصومها، فقد تعاونت مع الولايات المتحدة في إبعاد طالبان عن السلطة، وكان لها دور حاسم استخباريا ولوجستيا، وبعد سقوط كابول تكشفت بعض الحقائق عن تعاون إيران مع الولايات المتحدة ضد طالبان وتنظيم القاعدة، حيث قامت إيران بتدريب مقاتلين من "تحالف الشمال" الذي شارك في إسقاط نظام طالبان، كما أن عددا من ميليشيات "الهزارة" الشيعية الأفغان تدربوا في معسكرات الحرس الثوري الإيراني، وكان هؤلاء ضمن القوات التي دخلت كابول بعد انسحاب طالبان.

كان هدف إيران النهائي من ذلك منع الولايات المتحدة من الانفراد بالساحة الأفغانية وبالتالي محاولة الإمساك ببعض عناصر التأثير في السيناريوهات المستقبلية، ومن هنا كان حرصها على عدم قطع العلاقات مع أي طرف، حتى لو كان تنظيم القاعدة في أفغانستان. هذه التحركات الإيرانية المضادة، دفعت الرئيس الأميركي جورج بوش لتحذير طهران من أي محاولة لزعزعة الاستقرار في أفغانستان، ودعوتها لإعلان الحرب على الإرهاب وتسليم أعضاء القاعدة الموجودين على أراضيها، وبعد أيام من إدراج الرئيس بوش إيران في "محور الشر"، وجهت واشنطن، على لسان وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد في 23 شباط/فبراير 2002، اتهامات جديدة لإيران بالسماح لأعضاء تنظيم القاعدة بالعبور إلى أراضيها، لكن ذلك لم يؤد لتغيير في الموقف الإيراني بل على العكس ازداد الموقف تشددا مع وصول المحافظين الأصوليين إلى السلطة في إيران، وبدت إيران حريصة على استثمار وجودها في أفغانستان، عبر إقامة علاقات قوية مع الحكومة الأفغانية برئاسة حامد كرزاي، مع الاحتفاظ  بمستوى معين من العلاقات مع فلول حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان، لخدمة ملفات أخرى لاسيما الملف النووي، وبهذا تمكنت إيران من التخلص من نظام طالبان السني المعادي، إلا أنها كانت تدرك أن الولايات المتحدة سوف تنقلب عليها وتتفرغ لها لاحقا، ولذلك عمدت إلى استخدام ورقة القاعدة للضغط على الولايات المتحدة من جهة وضمان عدم استهداف القاعدة لأراضيها ومصالحها من جهة أخرى، وهكذا تحول التحالف مع القاعدة من المجال الموضوعي إلى المجال الواقعي، بحيث بات استهداف القاعدة لإيران أمرا بعيدا.

عقب الهجوم الأمريكي على افغانستان بعد ضربات 11 سبتمبر لجأ إلى إيران أكثر من (500) من أعضاء القاعدة وعائلاتهم، ومن أبرز قيادات القاعدة المحتجزين في إيران في بيوت آمنة: سيف العدل وهو المسؤول الأمني للقاعدة وأصبح القائد للعسكري بعد مقتل أبو حفص المصري، وقد نال حريته منذ صيف 2010 في صفقة تبادل أسرى بين حكومة طهران وتنظيم طالبان باكستان بصحبة سعد بن لادن مقابل الإفراج عن الدبلوماسي الإيراني حشمت الله زادة الذي اختطف في شمال باكستان في شتاء 2009 على أيدي طالبان، وأبو حفص الموريتاني محفوظ ولد الوالد وهو أول مسؤول شرعي لتنظيم القاعدة، وكانت له تحفظات على هجمات الحادي عشر من سبتمبر أفرج عنه عام 2012 ورحّل إلى موريتانيا، وسليمان أبو غيث وهو كويتي الجنسية وكان أول ناطق رسمي لتنظيم القاعدة، أفرج عنه بداية 2013 واعتقلته الولايات المتحدة في مطار عمان اثناء رحلته قادما من تركيا.

مرت العلاقات بين إيران والقاعدة بجملة من التحولات نظرا لوجود تباينات أيديولوجية، وكان الاحتلال الأمريكي للعراق أحد نقاط الخلاف الجوهرية، فقد تزامن التحول في السياسة الإيرانية مع حدوث فرز داخل تنظيم القاعدة حول الموقف من إيران، حيث برز اتجاهان مختلفان: الأول: تبناه القادة الكبار في تنظيم القاعدة، وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وقام على أساس محاولة استمالة إيران للاستفادة من وجودها في العراق لمواجهة الاحتلال الأميركي، باعتباره عدواً مشتركاً للطرفين، وتحاشي مواجهتها التي يمكن أن تنتج تداعيات سلبية على التنظيم، والثاني: تبناه قادة "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" وعلى رأسهم أبو مصعب الزرقاوي، وقام على أن المشروع الإيراني في العراق لا يقل خطورة عن المشروع الأمريكي.

زمن المتعة بين إيران والقاعدة تحول إلى طلاق بائن عقب الثورة السورية، فهيمنة المنظور الهوياتي الطائفي في تصور طبيعة الصراع في سوريا قلب التحالفات الموضوعية، كما ساهم قطع مسار الثورات العربية السلمية وعسكرتها ببروز نهج جديد للقاعدة يتجاوز المنظور المصلحي الجيوسياسي، ويبدو أن انقلاب طبائع الصراع في المنطقة طال الجميع فحسن نصرالله يرى من جانبه أن الصراع في سوريا وجوديا، ومع امتداد حدود الصراع في المنطقة على أسس هوياتية طائفية تعتمد القوة الصلبة في تسوية نزاعاتها؛ فإن نهج القاعدة يبدو ناجحا في الاستقطاب وناجعا في الاستهداف، وبهذا فإن إيران وحلفاءها أصبحوا في دائرة الاستهداف القاعدي.





الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع