استطلاعات الرأي الخاصة بالمسائل السياسية ظاهرة جديدة في
تونس، برزت بعد الثورة، لتصبح آلية من الآليات المساعدة على التعرف على اتجاهات الرأي العام. لقد كانت الدكتاتورية تحرم هذه التقنية بسبب خشيتها من التشكيك في مصداقية السلطة، أو تهدد مكانة الحاكم والحكم المطلق. لكن مع انهيار المنظومة السابقة، تعددت التجارب، وفتح المجال أمام إمكانية قياس ميول المواطنين، وظهرت نتيجة ذلك معطيات صدمت المراقبين في بعض الأحيان، وأثارت جدلا واسعا في عديد المناسبات مثلما حصل هذه المرة .
لقد أظهر سبر الآراء الأخير الذي نظمه مركز "المجمع العالمي للدراسات "- الذي كان ينشط أساسا في فرنسا - أنّ 35.2 بالمائة من التونسيين عبّروا عن ندمهم لسقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين علي، وانّ 56.7 بالمائة غير نادمين على ذلك في حين رفض 8.2 بالمائة الإجابة. وقد اعتبر مدير المركز أن هؤلاء الذين احتفظوا بأصواتهم هم اقرب الى الذين ندموا على إسقاط النظام، لأنّ " الشخص الذي لم يندم على شيء لن يكون له إشكال في الإعلان عن ذلك صراحة ". مشيرا الى أن " نسبة التونسيين الذين ندموا على سقوط نظام بن علي أكبر من النسبة التي أظهرها سبر الآراء ".
هذه النتيجة مزعجة جدا بالنسبة للأطراف التي راهنت كثيرا على الثورة التي قلبت الأوضاع رأسا على عقب، ورفعت من منسوب الآمال والرهانات إلى درجات عالية. ولكن السؤال الذي لا مفر من طرحه في هذا السياق : لماذا يندم قسم هام من المواطنين على مرحلة لم تكن مشرقة، وعرفت بالاستبداد البدائي والفساد وانسداد الآفاق ؟.
هناك وعي لدى الكثير من التونسيين بإخفاق الطبقة السياسية الحالية في الخروج من الأزمة الواسعة التي عاشتها البلاد بعد انهيار النظام السابق. أي أن القوى الحزبية الجديدة التي تولت الحكم، أو تتصدر حاليا المعارضة، لم تتمكن من إقناع العدد الكبير من المواطنين.وهو ما يفسر عدم إقبال التونسيين على الانخراط في الأنشطة الحزبية، ويكفي الإشارة إلى أن 94 منهم غير منخرطين في الأحزاب، وأن 87,4 لم يحظروا اجتماعات سياسية منذ الثورة، و80,6 منهم لم يشاركوا في مظاهرات.
بالرغم من أن نسبة التونسيين الذين ندموا على رحيل شخص بن علي تقل عن تسعة بالمائة، وهو ما يكشف عن تمييز المواطنين بين النظام السابق وبين الذي كان يمسك به، غير أن هناك سببان يقفان وراء هذا الحنين للمنظومة السابقة. يتعلق السبب الأول بالحالة الأمنية التي تراجعت بشكل ملحوظ عما كانت عليه من قبل، حيث أن 76 بالمائة يعتبرون بأن الأوضاع الأمنية كانت أفضل بكثير. أما العامل الثاني فيخص تراجع القدرة الشرائية للمواطن بسبب استفحال الغلاء. وهكذا يتبين أن العاملين الرئيسين الذين وردا في سورة قريش " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " هما العمودان اللذان يستند عليهما الاستقرار السياسي لدى الشعوب. وبالرغم من أن تونس أصبحت أفضل مقارنة بجميع دول ما يسمى بالربيع العربي، إلا أن استفحال الأزمة الاقتصادية وتصاعد ظاهرة الإرهاب لا يزالان يثيران مخاوف التونسيين الذين ينظرون للمستقبل بكثير من القلق وعدم الوضوح.
لقد أثرت هذه الأوضاع المضطربة على مختلف جوانب المشهد الحزبي. إذ بالرغم من الانتقادات العالية التي يوجهها جزء هام من الرأي العام للترويكا الحاكمة بسبب النتائج الضعيفة التي تحققت في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن نية التصويت لصالح حركة النهضة ما تزال في الصدارة، وذلك بنسبة 31,6 بالمائة، وهي بالتالي لا تزال محافظة على جمهورها الانتخابي الموالي لها، في حين تراجعت حظوظ حزب نداء تونس الذي سجّل تراجعا بنقطتين مقارنة بالشهر الماضي . وحافظت الجبهة الشعبية التي تضم اليساريين والقوميين على المرتبة الثالثة، في حين سجّل الحزب الجمهوري الذي يقوده المحامي نجيب الشابي تداركا بـ1,7 نقطة ليحتل المرتبة الرابعة. لكن مع ذلك فإن الرقم المثير في هذا الاستطلاع هو وجود 45,9 بالمائة من التونسيين لا يزالون لا يعرفون لصالح من سيدلون بأصواتهم. وهو رقم مهول يعكس على حد كبير حالة الاضطراب التي يعيشها جزء وع من الرأي العام في علاقته بالمشهد الحزبي، خاصة أن 45,3 بالمائة من هؤلاء صرحوا في نفس الاستبيان بأنهم لا ينوون إعطاء أصواتهم لحركة النهضة بسبب ما يشعرون تجاهها من خيبة أمل.
بقطع النظر عن مدى مصداقية مؤسسات استطلاع الرأي في تونس، وكذلك وجوب الأخذ بعين الاعتبار تقلبات الحياة السياسية، مع استحضار الأوضاع المتقلبة التي تصاحب عادة الثورات وحالات الانتقال الفجائي والعنيف، إلا أن ما ورد من مؤشرات ليس بعيدا كثيرا عن الواقع، وبالتالي يمكن اعتبارها رسائل مشفرة موجهة للقيادات الحزبية لعلها تعيد بناء نفسها، وتعمل على الارتقاء بقدراتها الذاتية لتصل إلى مستوى تطلعات الجماهير.