هل هناك إباحية يمكن أن توصف بأنها "شرعية"؟! السؤال يحمل في طياته الكثير من المفاجأة، ويبدو أن نسبة الشرعية للإباحية فيه اعتساف وتجن على المصطلح، ولكن لاعتبارات افتراضية محضة دعونا "نهضم" هذه النسبة ولو مؤقتا!
بدأت الفكرة حين استمعت للدكتور شرف القضاة المتخصص في الشريعة الإسلامية، وهو يتحدث عبر إذاعة أردنية محلية تدعى "حياة إف إم" عن أهمية تخفيض سن
الزواج للشاب والفتاة، بحيث يزوجهما الأهل وهما على مقاعد الدراسة، ويعيشان زوجين في مكان واحد، أو ربما في بيتي أهلهما، ويذهبان إلى المدرسة سويا، والجامعة فيما بعد، شريطة أن لا يعمدا إلى الإنجاب إلا بعد أن يتمكنا من تكوين نفسيهما، والقدرة على أن "يصرفا" على شخص ثالث، والهدف من هذا أن يمارس الشاب والشابة حياتهما بكامل نصابها دون شقاء عاطفي أو جنسي، واستشهد الدكتور شرف في هذا السياق بما يحدث في الغرب، حيث تبدأ حياة الذكر والأنثى (بكامل نصابها) منذ أن يصل الطرفان إلى مرحلة البلوغ، بسبب الحرية
الجنسية المتاحة في بلاد الفرنجة، في حين أن حياة أهل الشرق إما أن تبدأ في سن متأخرة جدا، أو لا تبدأ أبدا، وأرقام من حرمن وحرموا من الزواج تشهد على ذلك، وكي لا يضطر الشاب أو الشابة للعيش في حرمان مقيم، أو اللجوء إلى طرق ملتوية في الإشباع الجسدي، جاء اقتراح التزويج المبكر، فلا حل لهذا الشقاء إلا بالوصل، ولا يباح الوصل في ديننا وعاداتنا إلا بالزواج، لهذا لا بد منه مبكرا، تحصينا للمجتمع وتفريغا لشحنات الشباب والشابات بشكل سلس وحلال ومؤسس، ويعيب الدكتور شرف على الأهالي الذين لا يوافقون على هذه الفكرة أو يستنكرونها بقوله أن الأهل لا يعرفون حجم معاناة الشباب من الجنسين ولا يشعرون بها!
اقتراح الدكتور شرف له وجاهة كبيرة، فأنا أعتقد (وكثيرون غيري) أن علينا أن نطوي الملف الاجتماعي في حياة الشباب قبل أن نبحث لهم عن فرص عمل، وهذا الملف تحديدا يحتل ذيل سلم أولوياتنا، باعتباره إما عيبا أو ترفا، علما بأن حل المشكل الاجتماعي في حياة الشباب يحولهم إلى بشر مبدعين، وبتعبير أكثر وضوحا، لا بد من حل مشكلة "
الشقاء الجنسي" في حياة الشباب قبل أن/ أو بالتوازي مع إدخالهم إلى سوق العمل، فالشاب الجائع لا يمكن أن يفكر بالإبداع، كما أن الشاب غير المستقر عاطفيا شخص مستلب ومتوتر، ولا يمكنه إلا تشغيل جزء يسير من "خطوط إنتاجه" كي يكون عنصرا مفيدا في عملية التنمية، لقد فوجئت بإغفال هذا العنصر الخطير من كثير من البحوث، وهالني أن أحدا من الخبراء نادرا ما يتطرق إلى هذا الجانب من حياة الشباب، علما بأن هذا الملف يشغل بال جميع من أدركوا سن النضج ولم يتمكنوا من إشباع رغباتهم بشكل سوي، وهي رغبة لا تقل في خطورتها عن الرغبة في إطفاء نار الجوع، خاصة وأن المشكلة تخص ملايين الشباب والشابات، خاصة في دول الخليج، حيث تقول الإحصائيات أن الخليجيات الأكثر عنوسة بين بنات العرب، الأرقام الرسمية تقول أن 35% من الفتيات في كل من الكويت والبحرين والإمارات بلغن مرحلة العنوسة، وانخفضت هذه النسبة في كل من السعودية واليمن وليبيا لتصل إلى 30%، بينما بلغت 20% في كل من السودان والصومال، و10% في سلطنة عُمان والمغرب، في حين أنها لم تتجاوز في كل من سورية ولبنان والأردن نسبة 5%، أدنى مستويات للعنوسة في فلسطين، حيث مثلت نسبة الفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج (أو لم يصل بعد!) 1%، وكانت أعلى نسبة قد تحققت في العراق إذ وصلت إلى 85%، أما في مصر فقد وصلت نسبة غير المتزوجين من الشباب من الجنسين بشكل عام حوالى 30%، وبالتحديد 29.7% للذكور و28.4% للإناث.
الإحصائيات تقول أيضا أن العنوسة لا تقتصر على النساء فقط، فهناك نسبة كبيرة من الرجال يعانون من هذه الظاهرة، ففي سورية بيّنت الأرقام الرسمية أن أكثر من 50% من الشبان السوريين لم يتزوجوا بعد، بينما لم تتزوج 60% من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 25 و29 عاماً.!
الحديث في هذه المسائل لم يزل مغلفا بكثير من الخوف والحرص غير المبررين، ويبدو أننا بحاجة لجرأة كبيرة كي نقتحم هذا "التابو" المغلق، وإعطائه ولو جزءا من اهتمامنا كبالغين كبار، كي نتحول بمجتمعنا بمجمله إلى مجتمع سوي يعيش حياته باستقامة واستقرار وإشباع جسدي وروحي على حد سواء ضمن محددات الشرع والدين والعادات والتقاليد، ودون أن نجترىء على أي من قيمنا السامية!
إن الخوض في ملف الحياة الجنسية في الشرق محفوف بالمخاطر، ويشبه في أحسن حالاته المشي في حقل من الألغام، لأن ظلال هذا الاصطلاح مشوب بالسرية والتحفظ والخطيئة والكبت والمحرم، ولكنه جزء خطير من حياتنا، ولم يكن في يوم من الأيام يسبب مشكلة في تاريخنا الإسلامي، لأنه لم يكن ثمة مشكلة كبت ولا حرمان، ولا شقاء جنسي، ومعظمنا يعرف قصة ابن المسيب مع أحد تلامذته حين تغيب عن دروسه فسأل عنه، فقيل له أنه انشغل بدفن زوجه، فقام الشيخ من فوره وأخذ بيد ابنته، ومضى إلى بيت التلميذ، ونادى على الجيران معلنا زفاف ابنته لتلميذه، قائلا له أنه كره له أن ينام ليلته وحيدا، ذلك أنه لم يكن من المسموح في تاريخ المسلمين الأوائل، حين كان الدين لم يزل طازجا في أنفس القوم، أن ينام رجل أو امرأة وحيدا، فانظروا ماذا حل بنا اليوم، وكم من الفتيات والشباب يتقلبون على جمر الحرمان، جراء تعقيدات معاصرة، تحول دون لم الشمل، وانتظام الذكور والإناث في أسر، وحياة مستقرة، تبعدهم عن شر الشقاء والانحراف والكبت والحرمان.
وفي هذا السياق كتبت لي إحدى الأخوات قائلة: هل تعلم أنني في موقع عملي أُواجه كثيرا من الأمهات اللواتي يردن بنات حلال لإبنائهن وخاصة إن المكان الذي أعمل فيه يتردد عليه فتيات كثر وصاحبات دين على الأغلب، وتبدأ الأم بالسؤال عن فتاة لابنها مشترطة ان تكون متدينة وصاحبة خلق وجامعية في معظم الأحيان وأدلها على إحداهن، وبعد أن تراها ترجع فتقول: نعم ولكن أريدها طويلة وبيضاء وعيونها ملونة، وأن يكون أخوها إنسانا عاديا، اللهم إنه صاحب شهادة ويصلي. ثم تقول الأخت الكريمة: والله توجد أم تبحث عن عروس لابنها منذ سنتين أو ثلاث سنوات ولم تجدها بعد لأنها تريد مواصفات خيالية للعروس، وأخرى تقول أنها تعبت كثيرا من طلبات ابنها، وتسأل: ماذا جرى لهذا المجتمع ومتى سوف تتزوج السمراء والقصيرة والتي لم يسنح لها الحظ ان تتعلم؟ ألا يوجد مواصفات تعلمناها من حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم للاختيار؟ ثم تنتهي إلى النتيجة المؤلمة، بالرغم من وجود أناس لا يستطيعون الزواج بسبب عدم توفر الماديات ولكن يوجد شباب كثيرون لديهم الماديات ولكن لديهم الطلبات المعجزة!
هذا جانب، أما الجانب الأسوأ، فهو خاص بكيفية التعامل بتسامح أكثر مع الثقافة الجنسية، شأنها شأن أي ثقافة صحية، في قالب نظيف من الأخلاق والأدب الرفيع الذي علمنا إياه نبينا محمد صلوات الله عليه وسلامه، ومن تبعه من الصحابة والتابعين والعلماء الأجلاء الذين ألفوا الكتب والمجلدات في حياة الرجل والمرأة، وأفاضوا في شرح طرق ووسائل الاتصال، مستلهمين في ذلك الأدب النبوي الرفيع، الذي لم يترك شيئا في حياة الرجل والمرأة إلا وعلمنا إياه بشكل مجمل، فيما جاءت كوكبة من العلماء والفقهاء من بعده ليفيضوا في تناول هذه الحياة وفي أدق خصوصياتها، وليكتبوا أبحاثا متخصصة جدا، مما يعتبر الآن في عرف "جاهلية القرن الواحد والعشرين" من أمور العيب وربما المحرم، باعتبار أن هذا الأمر ليس من ضمن سلم أولويات الأمة، مع أنه في رأس هذا السلم، فأمة يعيش شبابها وبناتها في حرمان وكبت، وأزواج لا يعرفون كيف يعيشون حياتهم الخاصة بسعادة وهناء، لا يمكن لها أن تناجز عدوا، ولا أن تبدع اقتصادا، ولا اختراعا، ولا يمكن لها أن تنظم سلم أولوياتها كله!
أذكر أن الممثل دريد لحام سئل عماذا أوصى ابنته في يوم زواجها، فقال أنه أوصاها بجواز الاختلاف مع زوجها في أي مكان، إلا أن تختلف معه في غرفة نومهما، طبعا ربما يخرج علينا متفيقه قائلا أن دريد لحام ليس حجة في هذا الباب كي نأتي بنصيحته، ولكننا نقول لهذا وغيره، اقرؤوا وصية الأعرابية لابنتها في يوم زفافها، وستجدون شيئا من هذه النصيحة وأكثر منها، واقرؤوا قبل هذا أدبيات السيرة النبوية وأحاديث السيدة عائشة رضوان الله عليها في هذا الباب، واقرؤوا إن شئتم ما شرحه الفقهاء والعلماء وأفاضوا فيه، وسترون أنهم لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وتناولوها كي يعلموا الناس كيف يعيشون حياتهم، وكيف يهنؤون فلا يشقون، ولا يتعبون ويُتعبون!
بصراحة وبلا مواربة، نحن بحاجة لثقافة صريحة في هذا المجال، ليس للحض على الفاحشة لا سمح الله، ولكن لمنعها، وكي يعرف الناس كيف يعيشون بنظافة وإتقان وهناء، ذلك أن كثيرين يعتقدون أنهم "يتقنون" فن الحياة في هذا الجانب، فيما هم يعيشون في شبه غيبوبة، تسبب عددا غير محصور من المشكلات!
Hilmias@gmail.com