على ضوء ما بينته المقالة السابقة "اللجوء الحمساوي إلى
قطر: مقدمة تمهيدية"، فإن
حماس بصفتها حركة مقاومة؛ تحتاج إلى التحالفات والعلاقات الدولية بما يعزز مشروعها المقاوم، لا من جهة الحاجة إلى أرض آمنة للتحرك خارج ساحة الصراع المباشر فقط، ولكن أيضا لجملة من الأسباب؛ منها: تقريب المزيد إلى أرضيتها وإن بنسب متفاوتة اقترابا وابتعادا، ولتحييد من لا يمكن كسبه، ولكبح جهود الخصوم قدر الإمكان. ولأن مشروع تحرير فلسطين وبقدر ما يعتمد على القدرات الذاتية للشعب الفلسطيني وقواه التحررية فإنه يحتاج إلى تحالفات إقليمية ودولية توفر الأغطية السياسية والمالية والإعلامية لحركات
المقاومة، وتحالفات سياسية أكثر جذرية تعمل بالفعل لأجل تحرير فلسطين، بمعنى أن طبيعة العلاقات الدولية والتحالفات السياسية ذات مستويات مختلفة، وعلى هذا من الممكن أن توجد حماس في أكثر من مستوى في الوقت نفسه.
فعلاقة حماس بقطر هي علاقة عادية ومفهومة ومفيدة وتمليها الحاجة في سياق تعدد مستويات العلاقات السياسية، بيد أنها صارت إشكالية من بعد خروجها من سوريا لأسباب وجيهة قابلة للنقاش لا تتعلق بمبدأ وجود علاقة تجمع حركة مقاومة بدولة قطر، ولكن لاتخاذ قطر مقرا لرأس الحركة وجزء هام من قيادتها، وهو الأمر الذي قد قد يخلق تعارضا ما بين وظيفة حماس كحركة مقاومة ووجودها في دولة بحجمها وقدراتها وارتباطاتها وبنيتها لا تحتمل مطلق هذه الوظيفة، وهو الإشكال الذي ناقشته المقالة الماضية ذاهبة إلى أن اتخاذ قطر قاعدة لحركة مقاومة ليس أمرا طبيعيا من حيث الأصل، بيد أن هذا الإشكال الذي يفترض نقاشه بتجرد لصالح حركة المقاومة، يجري حمله على سياق آخر مفتعل يصور الحركة وكأنها تخلت عن المقاومة نهائيا، وهو تصوير يستبطن قصر المقاومة على مجرد التحالف مع المحور الإيراني، بصرف النظر عن الأفعال على أرض الواقع، إضافة إلى اتهام الحركة بالارتباط العضوي بقطر كما هو ارتباط حزب الله بإيران، ومن ثم تتخذ هذه العلاقة سببا للطعن في الحركة وإسقاطها والتشهير بها على أساس من الخلاف حول تقييم الأزمة
السورية.
تبدو حجج أنصار المحور الإيراني، في حال تلفعت برداء المبدئية، داحضة بمجرد تذكيرهم بالعلاقات الحميمة التي جمعت كل أطراف محورهم بلا استثناء مع دولة قطر حتى بداية الثورة السورية، وهي علاقة اتسمت بعض أشكالها بالمبالغة في تبجيل قطر وأميرها السابق والد الأمير الحالي، ولذلك فإن هذا الاتهام ما يلبث أن يتراجع لصالح الزعم بأن المشكلة ليست في العلاقة مع قطر، ولكن في اتخاذها مقرا لقيادة الحركة.
وقد يصح هذا لو كان الاتهام يقتصر على هذه القضية دون الاحتجاج بالقاعدة الأمريكية، وعلاقات دولة قطر بدولة الاحتلال، والأمر نفسه يمكن قوله مع تركيا عضو الناتو، لكن هذا المشهد كان هكذا بكل هذه الصور حينما جمعت المحور الإيراني علاقة حميمة بكل من قطر وتركيا، وبالتالي لا معنى لاستدعاء كل ذلك للتأكيد على ذم علاقة حماس بقطر أو تركيا، وإلا فإن المحور الإيراني أولى بالذم لهذا السبب، فهذا الخلط الذي يكثف احتجاجه بكل سياسات قطر وتاريخها وعلاقاتها يُفقد الحجة الأساسية مصداقيتها، ويظهرها متقصدة الكيد والمناكفة والإسقاط الرخيص لا الحرص المبدئي على حركة مقاومة.
لكن بعيدًا عن روح السجال، فإن هذا الاتهام مهما كانت دوافعه، يفتقر للفهم الموضوعي لظروف حماس، بما يجعل الحديث عن علاقة حماس بقطر عملية ابتزاز لا أكثر، بحيث لا يبقى أمام حماس إلا المكث في سوريا بعد دفع الثمن المطلوب بتأييد النظام في معركته مع أبناء شعبه، أو التوجه لإيران بالرغم من الخلاف معها حول تقييم الأزمة السورية، بمعنى أنه لا سبيل أمام حماس، حين إسقاط ظرفها الموضوعي، إلا الاصطفاف في محور بات في معركة ضد طيف واسع من أبناء الشعب السوري. فتعيير حماس بوجود قيادتها في قطر مبني على الخلاف من الأزمة السورية، لا على مجرد اللجوء إلى قطر، فلو انتقلت قيادة حماس إلى قطر في ظرف آخر لما أشكل هذا على أنصار المحور الإيراني، ولما تشكّل في أذهانهم تصور التعارض بين طبيعة قطر وطبيعة حركة المقاومة، ولما تذكروا فجأة كل ما يسردونه الآن من علاقات وسياسات قطر!
وحتى لا تكون المخاوف والحسابات الذهنية على حساب الحقائق العملية والأحداث الفعلية، لا بد من التذكير بأن آخر حرب خاضتها حماس مع دولة العدو حصلت بعد استقرار قيادتها في قطر، وفيها استهدفت حماس للمرة الأولى القدس وتل أبيب بالقصف الصاروخي انطلاقا من قطاع غزة، وهذا بالتأكيد لا علاقة له بوجود حماس في قطر، ولكنه يكشف انتفاء نظرية الارتباط العضوي، وأن هذا الوجود لم يكن مؤثرا على قرار الحركة في الرد الضخم وغير المسبوق على اغتيال أحمد الجعبري، رحمه الله، والذهاب نتيجة ذلك إلى حرب مدمرة، تتحمل حماس عادة العبء الأكبر من الجهد الحربي فيها، والوحيد من جهد الإعمار وترميم الجراح وتحمل المسؤوليات تجاه الشعب المكلوم بعد ذلك! بينما التهدئة الأطول في تاريخ الحركة مع العدو حصلت وحماس لا تزال في سوريا، وهذا أيضًا لا علاقة له بوجود حماس داخل سوريا، لكنها إشارة لافتة إلى سخف هذا النوع من المقارنات الاعتباطية، وتأكيدًا على أن حماس ما كانت مرتبطة بأحد عضويًا لا سابقا ولا الآن.
وبقدر ما يبدو الحديث في البدهيات مملاً ويبعث على السأم، إلا أنه لا بد منه في هذا الموضوع، لتوضيح الفارق الموضوعي بين ظروف حماس من جانب وبقية عناصر المحور الإيراني من جانب آخر، فحماس فضلاً عن كونها ليست دولة لديها وفرة في البدائل والخيارات، فإنها لا تعمل على أرض حرّة كما هو شأن حزب الله، وبالتالي لا تدخل علاقات حماس السياسية في باب الحاجة فقط كما هو حال النمط الغالب من العلاقات الدولية عمومًا، بل تدخل في باب الضرورة أيضا.
فحزب الله ورغم ارتباطه العضوي بإيران، وحاجته لأشكال دعمها المتنوعة، فإنه لا يحتاج إلى أي نوع من اللجوء إليها، حتى في مرحلة المقاومة لتحرير جنوب لبنان، لوجود قواعده الآمنة ونقاط ارتكازه ومقاره القيادية ومجمل مؤسساته وأجهزته وجسمه التنظيمي على أرض غير محتلة ولا تخضع لأي نوع من الفعل الصهيوني المباشر، وهذا الوجود الآمن والحر والمستريح لا يتعرض للحصار بما يفقده وظيفته، بل على العكس من ذلك أضاف الحزب إلى نفوذه الكبير في الدولة وأجهزتها أن جعل من ذات وجوده دولة داخل هذه الدولة.
بينما حماس، كما هو حال كل الشعب الفلسطيني، إما أنها على أرض خاضعة للاحتلال المباشر وبالتالي مستنزفة بعملياته اليومية، أو لها وجود مكثف على أرض شبه محررة ولكنها صغيرة وضيقة ومحاصرة ومهددة على مدار الساعة، وفي وضع لا يحتمل أن توضع كل مقدرات الحركة فيه وهي تخوض صراعا وجوديا مفتوحا على كل الاحتمالات، أو أنها تعاني اللجوء خارج الوطن كما بقية أبناء الشعب الفلسطيني، فهي بالضرورة بحاجة إلى مساحات عمل آمنة خارج فلسطين، وبالتالي فإن تقييم خيارها باللجوء إلى قطر بإسقاط ظروفها الموضوعية وقياسا إلى ظروف غيرها؛ هو عملية خاطئة تماما من البداية سواء حسنت النوايا أم لا، فقرار الحركة في هذا الموضوع أقرب للاضطرار منه إلى الخيار، خاصة وقد قررت أن تغادر سوريا لخلافها مع النظام السوري في سبل معالجة الأزمة السورية من ناحية، ولأنه طالبها بموقف واضح مؤيد له من ناحية ثانية، وبمعزل عن الأسباب السياسية فقد كان الخروج محتمًا لأسباب أمنية، وهذا الخلاف على تقييم الأزمة وسبل حلها طال علاقة الحركة بالمحور كله، وخاصة إيران التي لها فهمها الخاص للتحالف الذي يتجاوز قاعدة التحالف على أساس المقاومة ليصبح تحالفا كليا مطلقا في القضايا كلها، بحيث لا يسع حماس من وجهة نظرها اتخاذ موقف مغاير لبقية عناصر التحالف، ما جعل لجوء الحركة إلى إيران غير ممكن حينها بالرغم من وجود مكتب لها هناك لا يزال يعمل حتى الساعة.
إن التغير الذي حصل كان داخل سوريا، أما علاقة حماس بقطر فلم تتغير لا قبل الثورة السورية ولا بعدها، بمعنى أنها لم تستجد من بعد الثورة كي تعتبر دليلاً على ارتباط عضوي، والإضافة التي حصلت بانتقال قيادة الحركة إلى قطر جاءت ضمن السياق الذي سبق شرحه، ولا يمكن لها أن تشكل دليلاً على تحولات عميقة في استراتيجيات الحركة، وإن كانت بالتأكيد تشكل دليلاً على أزمة مؤقتة تمرُّ بها الحركة، وهو ما يفرض العمل على منع تحولها إلى أزمة دائمة، والخروج من حالة انتظار استقرار التحولات في الإقليم إلى المساهمة في صياغة هذه التحولات، ومدافعة الغموض الاستراتيجي بما يخدم مشروع الحركة التحرري، وبما قد يضعها على رأس مشروع إسلامي عالمي محوره القضية الفلسطينية إن توفرت الرؤية والإرادة والتخطيط.