في زحام الفضائيات المحلية والمواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر، يمكن ملاحظة بدايات لما عرف عالميا بـ"إعلام راوندا" الذي أجج صراعات الهوية في البلد الإفريقي. وكأي صراع هوياتي يتحول إلى احتراب أهلي مفتوح، ترتكب فيه أسوأ جرائم الإبادة والتطهير العرقي وسط تطبيل وتزمير. لم تكن وقتها قد انفتحت آفاق الفضاء الإلكتروني التي لا يمكن ضبطها، كانت الإذاعة هي من أطلق شرارة الاحتراب بين الهوتو والتوتسي.
النجاح هو أن تحصن المجتمع من تلك الشرارة، وأن يعزل أي خطاب عنصري تقسيمي. فذلك الخطاب مهما كان محدود التأثير سرعان ما ينتشر كالنار في الهشيم في أي لحظة غفلة. وساعتها يصعب كثيرا إطفاء الحرائق أو السيطرة عليها. وأي حريص على السلم الأهلي يدرك خطورة تسلل الخطاب العنصري في نقاش موضوع الحقوق المدنية لأبناء الأردنيات، أو اللاجئين السوريين، أو ما هو دون ذلك.
يعتمد الخطاب العنصري على الجهل والتجهيل المتعمد والكذب المنهجي، فلا أحد تحدث عن تجنيس أبناء الأردنيات، لكن الحديث عن حقوق مدنية طبيعية لبشر يقيمون بيننا. وحصولهم على الحقوق المدنية لا يغير في المشهد الديموغرافي شيئا. وبالأرقام تبين أن عدد الأردنيات المتزوجات من
فلسطينيين خمسون ألفا ومن المصريين ثمانية آلاف ومن السوريين سبعة آلاف. وهؤلاء إن تحسنت أوضاعهم المعيشية قليلا فلن تصبح هوية الوطن في مهب الريح. مجموعهم 338 ألفا و844 وهم موجودون ولن يغادروا مهما ضُيّق عليهم.
القضية لدى العنصريين هي زيادة عدد الفلسطينيين في الأردن، وعليه وفي ظل خطة كيري يتحول الأردن إلى وطن بديل. هكذا بسهولة! أطفال خمسون ألف فلسطيني سينجزون انقلابا على أخوالهم في الدولة والمجتمع معا. ولن تتمكن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بعدتها وعديدها من إحباط الانقلاب، وملايين الأردنيين سيختبئون في بيوتهم ، وملايين الأردنيين من أصل فلسطيني ما هم إلا خلايا نائمة من عام 1949 لتنفيذ خطة كيري.
لو كان لهذا الخطاب المتهافت أدنى درجة من المنطق لصلح بعد النكبة يوم جنست الدولة الأردنية اللاجئين الفلسطينيين وضمت
الضفة الغربية. في تلك اللحظة كان ثلثا سكان المملكة فلسطينيين وكانت القدس ستحتل مكانة عمان. والجيش كان يقوده ضابط بريطاني وسينفذ تعليمات القوى الاستعمارية. من يومها يوجد في قاموس العالم شيء اسمه الصراع العربي
الإسرائيلي، لأن الفلسطيني لم يجد في الأردن بديلا لفلسطين. وبالمناسبة رعى الملك الراحل إعلان منظمة التحرير الفلسطينية في القدس عام 1965.
لا نستطيع صياغة التاريخ وفق هوى مجموعة موتورة عنصرية، لم تخرج في الضفتين مظاهرة واحدة ضد الوحدة، وكل القوى الوطنية في الضفتين شاركت في الانتخابات إلى أن وقع الاحتلال. وعندما أعلن فك الارتباط،عارضه الإخوان المسلمون والبعثيون باعتباره إجهاضا لوحدة الضفتين. ومع ذلك فصلت الضفة الغربية ونزعت الجنسية الأردنية عن أبنائها باعتبارهم نواة الدولة الفلسطينية المزمعة. لم تعد الجنسية لواحد من أبناء الضفة، ولم يطالب أحد منهم بإعادتها، لأن الوعي الجمعي للناس يدرك أن القرار اتخذ بنوايا حسنة، وأن معاناة الفلسطيني باعتباره كائنا بلا جنسية كاملة هي تضحية في سبيل إقامة الدولة.
نحتاج نقاشا صحيا وصريحا وشفافا وجريئا أساسه قانون الانتخابات، كيف يمكن طمأنة الأردنيين وطمأنة الأردنيين من أصل فلسطيني؟ وأحسب أن الجواب القصير والسريع المطمئن هو اعتماد الوزن الجغرافي للمحافظات كما كانت في لحظة فك الارتباط. وكان من المفروض أن لا تتعرض أوزان المحافظات للعبث السياسي بناء على حسابات شخصية صغيرة لمسؤولين نافذين وقت صياغة الدوائر الانتخابية.
فرق بين أن يبنى النقاش على قاعدة الطمأنة وأن يبنى على قاعدة التخويف والتحريض.أي منطق الإعلام الراوندي الذي يريد تحويل الأردنيين والفلسطينيين إلى هوتو وتوتسي.