في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات، كان أطفال
درعا يُسامون سوء العذاب في فرع الأمن العسكري في السويداء، لأنهم اتُهموا بكتابة عبارات ثورية على سور مدرسة في حي الأربعين.
لا يستطيع أحد الجزم إن كان الطلاب هم من فعلوها، وأن خربشاتهم كتبت تاريخا جديدا للمنطقة، أم أن كبارا فعلوها ودفع ثمنها الأطفال. لكن المؤكد أن تلك العبارات لم تكن طائفية، ولم تدع لحرب أهلية؛ بل استلهمت روح "الربيع العربي" ونادت بالحرية. فبمناسبة سقوط حسني مبارك قالوا: "إجاك الدور يا دكتور"؛ حتى إن فيها لياقة لا تليق بدكتاتور.
لم يفتح النظام أي حوار مع الطلبة ولم يستمع لصوتهم. والنتيجة أن الناس انفجرت يوم 18 آذار (مارس) 2011، بعد قصة إهانة مدير الأمن السياسي في درعا العقيد عاطف نجيب، للوسطاء. ابن خالة الرئيس اعتقد أن ليس من حق الناس أن تسأل عن مصير أطفالها "أولادكن انسوهن.."؛ هذا العقيد هو المؤامرة الكونية على سورية.
اندلعت الثورة مع أول قطرة دم سالت، وحافظت نحو نصف عام على سلميتها، إلى أن اضطرها النظام للتسلح.
دموية النظام السوري لم تكتف بإغراق سورية في الدماء، بل شرعنت لاستخدام القتل على أوسع نطاق. وهو ما تكرر في مصر بعد الانقلاب. لم يجرؤ مبارك ولا زين العابدين بن علي ولا علي عبدالله صالح على اقتحام الميادين بالرصاص الحي. إنه درس بشار الأسد: اقتل بلا رحمة، يستتب لك الأمر.
عمليا، بدأت الثورة المضادة في سورية. وللأسف، لم تكتف بإفساد التحول السلمي، بل أحدثت انقساما طائفيا غير مسبوق في تاريخ المنطقة.
للتاريخ، لم تحصل في درعا طول العام الأول حادثة طائفية واحدة. النظام هو من لعب اللعبة الطائفية من اليوم الأول، وقبل أن تُطلق رصاصة واحدة أو يدخل عنصر من "القاعدة" أو ينشق عسكري؛ قال "عصابات تكفيرية سلفية إرهابية"، وقدم نفسه حامي الأقليات في المنطقة وليس في سورية وحدها. وهو، بحسب قضية ميشال سماحة التي كشفها الأمن اللبناني، زود حلفاءه بالمتفجرات لإشعال الفتنة الطائفية، فيقدم نفسه من بعد حاميا للأقليّات المستهدفة.
لم يهتف الثوار ضد حزب الله ولا ضد الشيعة، وبيوت السُنّة في درعا وحمص والقصير هي من احتضنت مهجري حزب الله في حرب تموز 2006. اليوم، الحزب يؤلف أناشيد ويبثها في إعلامه عن المعركة المقبلة في يبرود! يحتل منطقة سورية لحماية نفسه، ناسيا أن هذه حجة المحتل الإسرائيلي في احتلاله لجنوب لبنان. وهو في النهاية سينتصر على مدينة محاصرة يدكها الطيران. ولا يعرف ماذا بعد بعد يبرود.
بالنتيجة، تحولت الثورة إلى حرب أهلية طاحنة. التطرف والطائفية يقابلان بمثلهما، لكن هذا لا يلغي حقائق التاريخ، ولا يعفي النظام من مسؤوليته، كما لا يعفي المجتمع الدولي بعامة والعربي بخاصة من مسؤوليتهما. فلو أن المجتمع الدولي تدخل في العام الأول، لما حصل ذلك. لكن مصالح العالم ظلت مع النظام الظالم، لا مع الشعب المظلوم.
حال سورية كلها اليوم كحال أطفال درعا في زنازين الأمن العسكري؛ استباحة كاملة بلا رحمة. من لم يمت بالرصاص مات بالكيماوي، ومن لم يمت بالكيماوي مات بالبراميل. والدكتور يعتقد أن الدور لا يأتي عليه، وهو ماض في بطشه، والشعب ماض في صبره. ولن تتوقف نساء سورية عن الإنجاب، ولن ينسوا أطفالهم كما قيل لهم في البداية.