كتب وليد شقير: دخل
لبنان، بحكم بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيسه الجديد منذ الثلثاء الماضي، مرحلةَ اختبار لمدى قدرة الإجماع الدولي – العربي على حفظ الحد الأدنى من الاستقرار وخفض خسائر تداعيات الأزمة السورية على أراضيه وعلى مشهده السياسي الداخلي.
فالاستحقاق الرئاسي اللبناني يختزل مدى قدرة أطراف هذا الإجماع على رسم تسوية حول شخصية الرئيس المقبل الذي سيدير الحياة السياسية الداخلية وعلاقات البلد الصغير مع محيطه حتى عام 2020.
فقد ثبت، على رغم أن صلاحيات الرئيس اللبناني تقلصت منذ عام 1990 بعد التعديلات الدستورية بموجب اتفاق الطائف، أن موقع الرئاسة يبقى مقرراً ومؤثراً في التوازنات المحلية وفي إدارة الصراعات بين الفرقاء وفي ترجيح التوجهات السياسية للدولة مهما كان نفوذها تضاءل لمصلحة التأثيرات الخارجية والأطراف التي تتمتع بقوة ناجمة إما عن امتلاكها السلاح أو عن قدرتها على تغليب تمثيلها لطوائفها على تنازلها لمصلحة سلطة المؤسسات.
وبرهن الرئيس ميشال سليمان في سنوات عهده الست أن بإمكان الرئاسة ترجيح خيار على آخر في إدارة اللعبة والتوازنات.
وكانت التسوية التي أنتجت رئاسة سليمان نجمت عن توافق إقليمي– دولي قضى بالإتيان برئيس «عربي»، كما وصف اختياره عام 2008، بدلاً من الرئيس «السوري» كما جرى عام 1989 ثم عام 1998، بمجيء رئيسين جرى التمديد لكل منهما 3 سنوات، من أجل التمديد للمعادلة التي حكمت لبنان بوصاية سورية على الدولة من تعيين الحاجب إلى العلاقة مع الدول الكبرى.
ومع أن سليمان أتى نتيجة مبادرة مصرية لقيت قبولاً عربياً رجّح كفّته، فكان تعبيراً عن محاولة لإعادة التوازن إلى السلطة في لبنان بعد الهجوم المضاد الذي نفذته سورية وإيران، رداً على تراجع نفوذ دمشق المباشر بانسحابها منه عام 2005، فإن عهده بقي عرضة للتجاذب بين الحلم السوري باستعادة اليد الطولى على لبنان متسلحاً بالدعم الإيراني، وبين استعادة لبنان مقداراً من الاستقلالية في قراره السياسي عبر إعادة الاعتبار لمقتضيات تركيبته الداخلية التي عبثت بها الوصاية السورية التي أوكل «حزب الله» بها بعد الانسحاب.
لم يقبل النظام السوري بإعادة التوازن على قاعدة تكافؤ نفوذ المحاور العربية في البلد الصغير، إلى درجة تفريطه بالتفاهم مع السعودية. وظل هذا الحلم يراوده مع اندلاع الثورة في سورية واهتزاز النظام في الحرب الدائرة في بلاد الشام، استناداً الى قاعدة بائدة لدى حكم آل الأسد وقدامى أركانه منذ أيام حافظ الأسد: «الدفاع عن النظام في دمشق يشمل الدفاع عن نفوذه وحلفائه في بيروت».
تحوّل الحلم وهماً منذ رمت طهران بثقلها وأدخلت «حزب الله» والميليشيات العراقية في معركة تثبيت أقدام الأسد، الى درجة أن بشار الأسد نفسه أقحم نفسه في انتخابات الرئاسة اللبنانية في 14 الجاري حين قال إنه يعلّق أهمية على «ما يستطيع الرئيس الجديد أن يمنحه لخط الممانعة»... يتعاظم
الوهم كلما قضم الأسد منطقة من المعارضة المسلحة، وكلما اعتقد «حزب الله» أن موازين القوى تتغير لمصلحته ومصلحة النظام على الأرض السورية، في شكل يرتب من الفرقاء الآخرين، محليين أو خارجيين، تنازلاً لمصلحتهما في لبنان، ولم يكن المنطق يحتاج الى حصول معركة كسب والساحل السوري ليكتشف أن ترقب
الانتصار وهم، وأن الحرب السورية تحولت كراً وفراً بين النظام ومعارضيه، ليستنتج استحالة حسم المعركة لمصلحة الأسد وحلفائه في سورية. لكن الحلقة المفرغة التي تحوّل الرغبة في الإتيان برئيس ممانع وهماً لها كلفة عالية على لبنان بمقدار الكلفة المترتبة على ربط أوضاعه بالأزمة السورية أمنياً واقتصادياً، وهي كلفة الفراغ في الرئاسة الأولى. ما يبشر به الغموض المحيط بانتخابات الرئاسة الأولى في لبنان هو الفراغ، إلى أن يرسو الخيار على رئيس «عربي» هذه المرة أيضاً، فهل تلعب مصر دوراً في ترجيح هذا الخيار، كما فعلت عام 2008؟
(الحياة اللندنية)