ما الذي أسقط قانون العزل السياسي في
تونس وسمح بعودة قانونية لأنصار التجمع المنحل ليشاركوا في صناعة مستقبل
ثورة قامت ضدهم بالأساس. فلقد كان من أهم حركات الثورة التونسية منذ انطلاقها هي استعادة شعار طالما رفع في الطرقات منذ السبعينات وهو شعار يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب. ودعمه شعار لا رجوع لا حرية للعصابة الدستورية. لكن في اللحظة التاريخية للإجهاز على هذا الحزب عادت جميع الأحزاب تقريبا تناور معه وتمهد له طريق العودة على بساط أحمر .
موجة رد الفعل على تمرير النص في المجلس التأسيسي صبت الغضب كله على
حزب النهضة ذي الأغلبية فيه والذي يقدر أن يمرر أو يمنع ما يريد. كما لو أنه اقتسم السلطة القادمة بعد مع حزب التجمع و توزعا الأدوار ضد الثوار الأنقياء لكن النظر المتأني يجد أن عدم العزل جاء نتيجة لوقائع سابقة كثيرة أدت إلى تهشيم الجبهة الداخلية في مواجهة النظام القديم بما سمح له وهو في شتاته وهوانه على الناس بالمناورة والعودة من الباب الصغير نعم ولكنه يأخذ جزء من المشهد العام ويتأهل للبقاء وهي عادة يعرفها ولعبة يتقنها.
ميراث الفقر السياسي ما قبل الثورة
ميزة المشهد السياسي التونسي أنه مشهد مشتت ومفقر منذ ما قبل الثورة فقد عملت الدكتاتورية على إفراغه من كل مضمون ومن كل زعامة ومنعته من التعبير عن نفسه بوسائل ليس أقلها السجون والمنافي. وتم تفريغ كل حراك فكري وسياسي ما قبل نظام السابع و أحيلت النخب على العطالة والإقصاء أو الاستيعاب في النظام و الاكتفاء برشوة فائدتها أقل من عارها. فضلا عن الصراعات المدمرة التي كان يزرعها داخلها فيفتتها ويضاعف عجزها. ولذلك كان طبيعيا أن تحدث الثورة من خارج هذه النخب السياسية لكنها أعطت النخب السياسية والفكرية فرصة فذة لفعل يرمم صفوفها و يطور فكرها ويمكنها من قيادة الحراك التغييري من موقع متقدم. لكن الذي حصل هو أن هذه النخب الفقيرة والمفقرة في الفكر والحيلة (الاستراتيجية والتكتيك) أبَّدت تشتتها وتحاربت فيما بينها فأضعفت الحراك الثوري ولم تستقو به. فلما وصلت إلى مرحلة الإجهاز على النظام وجدت نفسها قد مدت له أسباب البقاء نكاية في بعضها البعض وهو لعمري أسوء ما حصل في الثورة التونسية. لا تزال النخبة السياسية تعاني فقرها السابق على الثورة وهي تتصرف على أساس استحالة لقائها حول هدف وطني موحد خارج الأيديولوجيات التأسيسية المتكلسة. لقد ولدت هناك وهي تحفر هناك قبرها بشغف.
مناخ من عدم الثقة والتكايد السياسي
الوجه الأبرز في ردات الفعل على عدم العزل السياسي هو تناسي بقية المطبعين وشن حملة إدانة على حزب النهضة ووصمه بالخيانة عبر التمهيد لاقتسام السلطة مع النظام القديم ضمن خطة خبيثة لقتل الثورة وقد جاء جزء كبير من الحملة من جهات تتمول بعد من النظام القديم بعد أن نظمت معه تحركات سياسية هدفت بالأساس إلى إسقاط حكومة حزب النهضة وخاصة بعد انقلاب العسكر في مصر ومحاولة استنساخ انقلاب في تونس. وكان اعتصام الرحيل هو الوجه الأبرز لذلك حيث قام المال التجمعي بتمويل الاعتصام و صناعته إعلاميا بل أن أطرافا من داخل الاعتصام ذهبت تستعين على الحكم الوطني المنتخب بجهات أجنبية وبقية المشهد ماثلة بعد للعيان. هؤلاء هم في الغالب من طالب النهضة بعزل التجمعيين بنص قانوني. بما يجعل طلبهم في تجسيد العزل محاولة التخلص من التجمع بدفع الآخرين لقتاله ثم التقدم لجمع أسلابه دون بذل ثمن في المعركة. وهو ما يدل دلالة واضحة أن مناخ الريبة والشك بين الأحزاب المتصدرة للمشهد لا يزال قائما بل أن سعيها إلى الكيد لبعضها ولو عند الأجانب هو القاعدة وليس الاستثناء.
وقائع ما بعد انتخابات 23 أكتوبر تدل على أن الحسم مع الحزب الحاكم القديم لم تكن شاغلا حقيقيا لدى الأحزاب والشخصيات بل إن العكس هو الذي حصل في ردهات كثيرة. أول المناورين بذلك هو مصطفي بن جعفر وحزبه الذي منع تقديم النص للمجلس منذ البداية وانخرط في مناورة إسقاط المجلس بغلقه والتكسب دوليا من احتمال الانقلاب ليكون في صف المنقلبين ثم عودته مزايدا بالعزل على شريكه القديم. الذي مكنه من رئاسة المجلس ومن الحكومة الاقتصادية. أما جبهة اليسار برمتها فقد نسقت عملها الميداني مع الحزب القديم وفضلت التحالف معه على أي تحالف مع النهضة وشركائها.
لذلك فإن ظهورهم الفجائي في آخر لحظة مطالبين بالعزل أضعف مصداقية طلبهم عند الناس (الذين وجه غضبهم ضد النهضة وحدها كأنهم منومون مغناطيسيا) كما أضعف قبل ذلك احتمالات الثقة بينهم وبين النهضة في المجلس فقد ظهروا في موقع من يريد جني الشوك بيد حزب النهضة. الذي ناور معتمدا على تماسك قواعده و طول نفسه. مناخ عدم الثقة وكيد الأحزاب لبعضها ولو ضد أهداف الثورة هو البوابة التي يمر منها الحزب القديم عائدا إلى المشهد.
مشهد مشوَّهٌ يفتح على المجهول
مناخ عدم الثقة الممهد لعمل مشترك في المستقبل يترسخ والأحزاب ترتب حساباتها الانتخابية منفردة ويبدو أن الاختلاف حول عزل النظام القديم سيفتح مزيدا من الثغرات بينها ليمر منه الحزب المنحل عائدا يتبجح فالتروكيا القديمة تشتت بين مناور (التكتل ) و بين مبدئي (حزب المؤتمر) وبين النهضة التي فقدت ثقتها في شريكيها منذ معركة وزارات السيادة التي تحالف فيها الشريكان ضدها لإسقاط وزرائها وخاصة بإغلاق المجلس. لذلك فان ائتلافها ثانية لا يبدو واردا إلا بشروط جديدة تضعها.
المناورة الأخيرة أعطت صورة سيئة للنهضة في الشارع وعند كثيرين كانوا ينتظرون موقفا مبدئيا لكن حسابات الحزب الخاصة كانت أسبق فكلفة المبدئية تعني خلق جبهة ضدها مرة أخرى تضم فلول الحزب المنحل والجبهة الشعبية فضلا عن اتحاد الشغل الذي لا يزال يطارد أبناءها في الإدارة ليقصيهم. لذلك تحملت سوء السمعة على سوء المآل. وهي تبرز الآن قرارات تقوم على أن النظام القديم ضعف بما يكفي ليتحلل من تلقاء نفسه وسيكون للصندوق كلمته في العزل بطرق شفافة ونهائية ولا تخلو من جمال. لكن هنا مربط الفرس.
هل تلاشى النظام فعلا ؟
التقييم يختلف فالنظرة إلى طبيعة النظام القديم مختلفة بين من يراه دولة حديثة بين من يراه عصابة مفسدين. والأغلب عند المطالبين مبدئيا (لا تكتيكيا) بعزله أنه لم يكن نظاما بالمعنى السياسي يحمل مشروعا وينفذه بمؤسسات سياسية بل هو عبارة على عصابة من المتنفذين في مفاصل الدولة متحالفة مع لصوص المال العام والتهريب والتهرب الضريبي أنها منظومة فساد مستشرية و لها قوانينها الداخلية التي تعمل من خلالها لإنقاذ نفسها وزيادة مكاسبها وقد عملت بكل جهدها على تخريب مرحلة الانتقال الديمقراطي تحت حكم
الترويكا ولم يكن لها ولا يمكن أن تقدم مشروعا سياسيا. لذلك فقوتها في قدرتها على التسرب و التمسك بمفاصل الكسب وتعطيل كل محاسبة. قوتها ليست في الحزب الظاهر بل في الحزب الباطن الذي يملك المال وهو الذي قاد اعتصام الرحيل وغيره من التحركات وعطل الإدارة وأغرى الكثيرين بالمال لكي ينقضوا على تجربة الحكم الانتقالي . وهو الذي يمكن أن يشتري الانتخابات القادمة بعد تفقير الناس. ومثل هذا النظام لن يكون عزله بنص أمرا فعالا في الواقع فهو قادر على تقديم وجوه جديدة باستمرار تربت في كنفه ولم تشتغل مع النظام السابق لذلك لا يشملها نص العزل .
هل من أفق سياسي ؟
الأحزاب لا تترك مجالا لاقتراح من خارجها لكي تنتبه إلى وجود تيار شعبي عميق ضد السماح للنظام بالعودة والمتوقع وهو تيار لم يفقد الأمل من الثورة ولكنه مشتت إلى درجة العجز ومناخ عدم الثقة بينه وبين الأحزاب يمنع أي تقارب وتنسيق فالأحزاب ترى في التيار الشبابي قوة انتخابية ممكنة وهو نفس الشباب الذي يجعل هذا التيار يستنكف من التنسيق معها دون مشروع حقيقي يقوم على تحقيق أهداف الثورة.
الأفق الوحيد الممكن الآن رغم كل التخذيل (وهو عمل النظام القديم في وسائل إعلامه التي لم تشملها الثورة) هو التقدم لانتخابات والتصويت ضد النظام السابق حيث ما ظهرت ملامحه (في قوائم حزبية أو تحالفات مموهة ) سيكون الانتخاب على قاعدة كل الخيارات مقبولة إلا خيار حزب التجمع وهو ما سيفتح على أفق تغيير آخر طويل المدى لكن بلا شريك فاسد ومفسد. سيكون من العبث وضع جميع الأطراف في سلة الخونة .. والتطهر الثوري على حسابهم لذلك فإن بعض التنسيب ضروري أملا في ترميم جبهة مناصرة أو غير معادية لأهداف الثورة.
المطلوب الآن وهنا جبهة سياسية وطنية متماسكة حول مبادئ الثورة ومطالبها دون طعن في الظهر وفي الخاصرة كما فعل شريكا الترويكا معها بملفات مفبركة (شيراتون قيت) ويجب على أطرافها أن تتوقف على التعامل مع حزب النهضة على أنه دابة جر لا يهمها من يركب العربة وراءه. أما اذا كانت هذه الجبهة ممكنة بدون حزب النهضة فلتتكرم علينا بقيادة الثورة نحو التحقق الكامل ليتحول الفيل النهضاوي إلى تابع أو جزء صغير من المشهد. إن لعبة تقشير الهندي بيد النهضة زادت من فجوة اختراق النظام القديم للصف الوطني. ويجب التوقف عن هذا الاستغباء الغبي.
يظل خيار العودة إلى الشارع وحرق النظام القديم بمحاكم ثورية هو الخيار الأجمل دوما لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هناك أطرافا داخلية مستعدة لكل النذالات من أجل البقاء في موقع القرار والمنفعة وليس ملف التطبيع مع العدو إلا بعض مناوراتها. وقد سمعنا مرارا وتكرارا أن حكم العكري (فرنسا) أفضل من رؤية وجه الخوانجية والطراطير.