الاسم
توما بيكيتي (Thomas Piketty). جامعي فرنسي مختص في
الاقتصاد من "مدرسة لندن". تميز منذ مدة بكتابة مقالات في التاريخ الاقتصادي تركز على موضوع التفاوت الاجتماعي في النظام الرأسمالي. ذاع صيته منذ اشهر قليلة حيث اصبح احد اكثر الكتاب المقروئين في السوق الامريكي الصعب للكتاب من خلال مؤلفه "راس المال في القرن العشرين". لا يلقى كتاب في الاقتصاد دائما كل هذا الاهتمام. لكن من الاغرب ان يلقى كاتب يُنعت من قبل منتقديه أنه "نيو ماركسي" بهذا الاهتمام تحديدا في الولايات المتحدة.
في المقابل بيكيتي يعاني احيانا تجاهلا واحيانا هجمات قوية في بلده الام لأسباب سياسية حيث كان مستشارا لقيادات الحزب الاشتراكي الفرنسي وليس من الشعبية الآن ان يكون اي أحد مختصا في الاقتصاد ومقربا من الاشتراكيين قياسا لأدائهم الحالي في الحكم. والنتيجة أن مضمون كتاب بيكيتي لا يلقى النقاش الجدي الأدنى في فرنسا. نحن على كل حال ازاء عادة متجددة، مفكر فرنسي آخر يجد مكانه في امريكا قبل بلده (جاك ديريدا وميشال فوكو للذكر لا الحصر).
إسهام الكتاب الملفت للانتباه يتمثل تحديدا في محاولة التاريخ الاقتصادي طويل الامد للتفاوت الاجتماعي في ظل الرأسمالية بناء علي تجميع غير مسبوق في الدقة والاتساع للمعطيات الخاصة بتوزيع الدخل والثروة بين القرنين التاسع عشر والعشرين لحوالي 27 دولة جمعت بين الدول الاكثر تصنيعا و"النامية" وهو مشروع بحثي شارك فيه عدد واسع من الباحثين بمبادرة من بيكيتي، وقاعدة المعلومات هذه هي التي ينبثق منها الكتاب وهي متوفرة على الانترنت (The World Top Incomes Database).
على اساس هذه القاعدة الصلبة التي اراد بها ان يواجه بها عملا مماثلا قام به الاقتصادي الامريكي سيمون كوزنيتس (Simon Kuznets) منتصف خمسينات القرن الماضي ينتصر بيكيتي لمقولة قديمة وهي ضرورة قيادة الدولة وليس السوق للاقتصاد والا فإن الانفلات العفوي للسوق سيقوم بتعميق التفاوت الطبقي وبين الامم ولن يحله الا كارثة اقتصادية واجتماعية جديد. بالنسبة لهذه الرؤية غير الجديدة دور الدولة الاجتماعي هو الذي جعل الراسمالية تبقى وليس قانون التعديل الذاتي للسوق الذي دافع عنه مؤسسو الفكر الاقتصادي الحديث من سميث الى ريكاردو وصولا خاصة الى كوزنيتس.
ربما يبدو للوهلة الاولى بالنسبة لنا في
تونس الجدال حول كتاب بيكيتي ترفا غير ضروري خاصة والاقتصاد يحتاج حلولا فورية لعجز متزايد في الميزانية. بيد ان الحكومة دعت آخر الشهر الماضي الى "حوار وطني حول الاقتصاد" من خلال ورشات مشتركة بينها وبين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الرئيسيين يتم اختتامه في اخر الشهر الجاري بتوصيات ملزمة.
المواضيع المطروحة في الحوار تمس مسائل استراتيجية وليس ظرفية فقط مثل التشغيل او منظومة الدعم في الطاقة والمواد الاساسية او كيفية التصرف مع المؤسسات العمومية التي يزداد عجزها سنويا. في ثنايا النقاش مثلا مقترح قانون "الشراكة قطاع عام-قطاع خاص" (PPP) والذي يتم تقديمه كأحد الحلول الاساسية بالنسبة للوضع القائم. يضاف الى ذلك "مجلة الاستثمار" الجديدة المثيرة للجدل والتي تمثل احد الشروط الاساسية لتواصل اقراض تونس من قبل المؤسسات المالية الدولية لاسيما صندوق النقد الدولي.
وبالتالي عموما النقاش في تونس الآن هو ايضا حول دور الدولة والقطاع الخاص في التنمية، وبهذا المعنى من المهم الانتباه إلى محتوى أطروحات بيكيتي. من الواضح ان هناك اتجاها اورتدوكسيا في اوساط النخبة الاقتصادية في تونس (من جامعيين او مستثمرين خاصة) يعتبر ان الثورة انهت تدخل عائلة كليبتوقراطية حاكمة في حرية المبادرة الاقتصادية وهو ما كان، حسب هذا التحليل، يخنق القطاع الخاص المحلي أو الاجنبي عبر منظومة فساد واسعة. بهذا المعنى الحل هو التقليل من تدخل من هو في السلطة في المبادرة الاقتصادية وفسح مجال اوسع للقطاع الخاص.
وعليه تتجه الحلول المقترحة عموما من قبل هذه الفئة من النخبة الاقتصادية نحو هذا الاتجاه اي مثلا نحو منح هامش ربح اكبر للاستثمار الخاص في مشاريع الدولة الكبرى سواء عبر استنساخ قانون (PPP) رغم كل الانتقادات التي استهدفته في دول جربته لاكثر من عشرية من الزمن (بريطانيا وفرنسا على وجه التحديد)، او عبر التسهيلات الضريبية الاضافية للقطاع الخاص المضمنة في مشروع "مجلة الاستثمار" الجديدة رغم النزيف الضريبي في ميزانية الدولة خاصة منذ اواسط التسعينات.
ومن الواضح ان هذا التوجه الاورتدوكسي يلقى دعما من خلال التوجه العام لتصريحات مسؤولي المؤسسات المالية الدولية. اشير هنا على سبيل الذكر لا الحصر مثلا الى مدير برنامج شمال افريقيا في البنك الافريقي للتنمية جاكوب كولستر والذي حدد ما يتعبره خطوات ضرورية في المرحلة الحالية في تصريحات صدرت في تاريخ 11 أفريل 2014 كما يلي: "حان الوقت لتحرير الاقتصاد التونسي، ولمراجعة قواعد اللعبة من خلال اصدار مجلة الاستثمار، وقانون الشراكة قطاع عام-قطاع خاص."
أحد المشاكل الاساسية مع هذا الطرح انه يتباين مع التوصيف العام الذي حوله اجماع حول الثورة في تونس. فما هو السؤال الاقتصادي للثورة؟ من المؤكد ان الفساد وتدخل العائلة كان يضر بمبدا حرية المبادرة الخاصة لكن ذلك لا ينفي ان نظام بن علي كان يقود سياسة تقوم علي تفكيك دور الدولة التنموي وتعويضه بالقطاع الخاص، بمواصلة توصيات "الاصلاح الهيكلي" منذ 1986 ولكن ايضا "التفكيك الجمركي" المنصوص عليه في اتفاقية "الشراكة" مع الاتحاد الاوربي سنة 1995. من الصحيح انه ومثلما بينت دراسة جديدة للبنك الدولي ان الشركات التابعة للعائلة الحاكمة تحت نظام بن علي تحوز لوحدها على حوالي ربع ارباح كافة القطاع الخاص لكن ذلك لا ينفي ان التوجه العام لسياسة النظام هو الخوصصة وتفقير المؤسسات العمومية وهو وضع لم ينشأ بسبب الثورة بل الثورة كشفته وعمقته لا غير.
ولهذا كانت الثورة ممكنة فقط بسبب تمرد ليس الخواص المحرومين بسبب مزاحمة العائلة بل بسبب تمرد من تضرر من غياب دور الدولة التنموي أي الجهات الفقيرة وفقراء احياء المدن الكبري مع دور خاص للفئة الواسعة من الشباب العاطل عن العمل.
صحيح ان سياسة الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والتي تمثلت في تدخل اكبر للدولة في موضوع التنمية، من حيث ارقام الميزانية، لم يفرز نتائج مباشرة واضحة للعيان ولم يقلل من المشاكل الهيكلية المسببة للعجز والتي تم توارثها على النظام الاسبق خاصة منها منظومة الدعم في الطاقة. لكن ذلك لا يعني ان المشكل في تدخل الدولة في موضوع التنمية بل شكل ذلك التدخل واهدافه وقدرة جهاز الدولة الموروث ومنظومتها التشريعية على تحمل دور قيادي.
المفارقة أن الجميع بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية ينطلق من هذا التوصيف الاخير لكن البعض يصل على هذا الاساس الى خلاصة ان الحل هو مزيد تعميق دور االقطاع الخاص من خلال توسيع نطاق المستفيدين او الاصح توسيع ارباحهم. اذ ان المتأمل الجيد سيري ان اكبر الخواص وخاصة من يستفيد من الصفقات الكبري ليسوا مستثمرين جددا بل ما تبقي من الاوليغارشية المتحالفة سابقا مع العائلة الحاكمة. وبه?ا المعنى "القطاع الخاص" القائم او الفئة المهيمنة عليه ليست بالضرورة معنية بمواجهة التفاوت الاجتماعي الذي تمخضت عنه الثورة او ترى في احسن الاحوال هذا المشكل من منظورها الخاص الذي يعتبر "تحرير الاقتصاد" هو الحل وان التعديل الذاتي للسوق هو الذي سيفرض توزيعا اكثر عدل للثروة.
الاطروحة الرئيسية لبيكيتي تصبح اساسية في منعطفات تاريخية تطرح فيها الاسئلة الاستراتيجية. دولة الرعاية الاجتماعية اصبحة مخرجا وحيدا اثر الحربين وبينهما الازمة الكبرى وموجة الثورات التي رفقتها. الثورة هي سؤال التفاوت الاجتماعي واذا كانت الاجراءات التي نجيب بها على اسئلة الثورة تعمق هذا التفاوت فاننا لا نفعل الا اطالة الازمة وخلق شروط انتفاضات اجتماعية جديدة ومن ثمة تهديد مسار الانقتال الديمقراطي نفسه. حيث لا ديمقراطية مستديمة بدون حد ادنى من التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
يطرح علينا كل ذلك موضوعا اخر مهما ذي علاقة بالحوار الوطني حول الاقتصاد سنناقشه في مقال قادم. من يجب ويمكن له على السواء ان يقود الاصلاحات الهيكلية؟ اذا لم تتحمل الاحزاب مسؤوليتها بوضوح في قيادة الاصلاحات وتمنح ذلك الدور للتكنوقراط اليس ذلك تخليا عن دورها الرئيس؟ ثم الا يعني ذلك ضمنيا ان وصفة الخلاص واحدة لا تقبل النقاش وعلى السياسي الانضباط اليها.