يوم 27 نوفمبر 2013، وقعت رئيسة الحكومة الألمانية انجيلا
ميركل اتفاقا تاريخيا بين حزبها الاتحاد الديموقراطي المسيحي وغريمه التاريخي في السياسة الألمانية الحزب الديموقراطي الاشتراكي أو الاجتماعي.
وقد حكم الصراع السياسي بين الحزبين الذين يمثل أحدهما يمين الوسط، والآخر يسار الوسط السياسة الألمانية لعقود عديدة، كما هو الشأن في بقية الديموقراطيات الأوروبية، حيث لم يكن في مقدور أي من متابعي السياسة ودارسيها تصور أن يأتي يوم يتحالف فيه الحزبان الرئيسيان.. ولكن ميركل المرأة التي صعدت إلى سدة الحكم في ظروف تشبه تلك التي أوصلت مارغريت تاتشر إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا في سنة 1979، عندما نجحت المطلبية المنفلتة من عقالها في تعطيل الاقتصاد البريطاني المثقل بقطاع عام بطيء ومتخلف بالكامل، وإدخاله في مرحلة ركود عميق.
في سنوات معدودة، نجحت
المرأة الحديدية في كبح جماح النقابات، وإخراج الاقتصاد البريطاني من أزمته من خلال التخلي عن إثقال القطاع العام وإصلاح المالية البريطانية، ونظام الرعاية الاجتماعية، فحولت قرابة 70% من البريطانيين من مؤجرين لبيوتهم إلى مالكين، ما وسع الطبقة الوسطى، وحول بريطانيا نهائيا إلى يمين الوسط، بعد أن غازلت اليسار منذ الحرب الثانية.
انقذت تاتشر الاقتصاد، ولكنها عمقت الانقسامات داخل المجتمع والسياسة البريطانيتين، ولعل دعوات الانفصال المتصاعدة في سكوتلندا لا تبعد أن تكون نتيجة لتلك السياسة التاشرية الحديدية التي أوغلت في التحزب والانفراد بعملية إنقاذ كانت تحتاج وحدة الشعب، ولكنها استعاضت عن الوحدة والتوافق بقوة القانون.
انجيلا مركل سلكت طريقا آخر، حيث خيرت على التحالف التقليدي بين أحزاب نفس العائلة السياسية، ما سمته "التحالف العظيم" بين الأضداد لتوحد الشعب والنخبة السياسية الألمانية بشكل غير مسبوق، منطلقة من قناعة أن الأزمة الاقتصادية التي تهز العالم الغربي لا يستطيع حزب واحد مهما أوتي من جماهيرية أن يواجهها أو أن يمرر القرارات المؤلمة والقاسية التي تتطلبها عملية الإنقاذ، والتي تتطلب وفاقا شبه إجناعي في الطبقة السياسية وفي البرلمان، وقد كان أن ارتفع الوعي في المعسكر اليساري - بفعل اطلاعه على الأوضاع ومسؤولياته التاريخية كحزب حاكم سابقا، وبفعل تمثيله لجملة من المصالح الضخمة يهمها استقرار ألمانيا ونماؤها -إلى مستوى الاستجابة إلى اليد الممدودة من " أم الألمان"، كما أصبح قطاع واسع يسمي ميركل.
ولم ينقذ هذا التحالف العظيم ألمانيا من الأزمة فقط، بل أدخلها في فترة رخاء جعلت منها قاطرة الاقتصاد الأوروبي، لتساهم في إنقاذ اليونان وإسبانيا وإيطاليا أيضا.
هذه مساهمة دكتورة الكيمياء، هذه المرأة الاستثنائية في تاريخ بلادها: عبقرية التوافق التي ستطبع حياة الشعب الألماني لفترات طويلة قادمة، وستعيد ترتيب الخارطة السياسية، ليكتشف مواطنوها كما اكتشفت هي بحسها الأمومي أن صحيح أصل الديموقراطية هي الصراع والتداول على السلطة، ولكن روحها وهدفها الأسمى هي المحافظة على الأوطان، عندما تكون مهددة في وحدتها أو حريتها أو رخائها.
نحن مازلنا في بداية تجربة ديموقراطية واعدة تحتل فيها المرأة مكانة كبرى تأسيسا من خلال مشاركتها الفاعلة في الثورة، وحضورها الواسع في مؤسسات القرار.. وقد بدأت التجربة تفرز وجوها نسائية من اتجاهات مختلفة، إذا تم الاعتناء بها ورعايتها، تسير على خطى الزعيمتين البريطانية والألمانية.. وفي انتظار ذلك هل يعي "رجال" السياسة الدرس الألماني؟؟؟
*قيادي في حركة النهضة
التونسية