طيلةَ سنوات الانقسام، كان عبّاسُ يعاملُ
حماس معاملة العدوّ، والصهاينة معاملة الحليف! ومنذ عقود شاهدنا عبّاسُ لا يدعُ فرصةً للدعاية لأفكار البراءة من "العنف"، وتجريم المقاومة، والتقزز من السلاح.
المرة الوحيدة التي سمعناهُ فيها يتكلّم بلغة القوّة، ويذكر "الطخّ" هي يوم قال: "أي واحد بيشوف أي واحد حامل صاروخ –للمقاومة- يطخّه.. يقتله.. منيح هيك!!".
لم تكن
المصالحة في نظر عبّاس –وفق ما سمعتُ من مشاركين مخضرمين في اللجان المفاوضة- إلا أحد أمرين:
إمّا أن توافق حماس على شروط المجتمع الدّولي، فتسقط شرعيتها، وتفقد ظهيرها الشعبيّ، وإما أن تُمنح أجهزته وضعًا أمنيًا في غزة يمكنها من الانقضاض على المقاومة وتخليص "
إسرائيل" والعالم الظالم منها.
ولذلك، كان صعبًا أن تتمّ المصالحة طيلة سنوات، إن لم يكن مستحيلًا، وحتى الذي حصل اليوم لم يكن مصالحةً بالمعنى الحقيقيّ، كما سيأتي!
منذ وقع الانقلاب بمصر، أدار عبّاس ظهره لدعاوى المصالحة أكثر، وحاول أن يستفيد بانتهازيّة ممّا جرى، واستضاف كثيرًا من رموز الانقلاب ومطبّليه، وأهداهم الأنواط، ومنحهم الأوسمة، وعزّز علاقاته بالنظام الجديد، وانطلقت سفاراته وإعلامه في الحملة الإعلامية الانقلابية على
فلسطين وغزة وحماس، وتساوق القومُ معها أيّما تساوق!
أراد أن يترك غزّة تموتُ، وأن يدفع أهلُها ثمن صبرهم على ويلات الحصار، وضريبة تمسكهم بالمقاومة وخيارها، ولازال أهلُ غزة يتذكرون كيف منع عبّاس الوقود القطريّ المخصص لمحطة توليد الكهرباء من الدخول، متذرّعًا بطلب الضريبة عليه، وقد كان! فقد أخذ عبّاس الضريبة على الوقود القطريّ رغم أنه تبرّع! إي والله.. ضريبة على التبرعات!
ما الذي حصل إذن؟! وما الذي جعله يغيّر رأيه؟ ويعود إلى قصة المصالحة؟!
لقد تعرّض عبّاس لمحاولة انقلابية داخلية قوية من قبل دحلان، دحلان الشابّ والأكثر ارتباطًا بالأنظمة العربية والأمريكان جعل عبّاس يشعر بتهديدٍ حقيقيّ، وعرف أنّ الانقلاب الذي قاده دحلان سابقًا بالاشتراك معه على عرفات، سيتكرر مرةً أخرى!
فلم يجد أفضل لموقفه من أن يقول: إنّ معي غزة والضفة، وإنني أمثل الكلّ الفلسطينيّ، ودحلان منبوذٌ من هذا الكلّ!
عبّاس لم يُعدّل من موقفه! لم يتراجع عن التنسيق الأمنيّ، بالعكس: لقد منحه القداسة! عبّاس يعاند بشدّة ويصرّ على تولية رموز الانقسام أمثال المالكي والهبّاش! أجهزة أمن عبّاس تلاحق أنصار حماس بالضفة! عبّاس يتعامل باستعلاء، ويتكلم بلغة الأمر الواقع؟! ما هذه المصالحة؟ ولماذا توافق عليها حماس؟!
ليست مصالحةً في الحقيقة! إنّها استسلام جزئيّ! هي تسليم للحكم إن صحّ التعبير!
لقد سلّمت حماسُ الحكم لعبّاس، وخيرًا فعلت!
لقد شَعَرَت بأنّها لم تعد قادرةً على تلبية الحاجات الأساسية لأهل غزة، ولا أفقَ أمامها في هذا المجال، النظام المصريّ الجديد أكثر شراسةً من نظام مبارك، والعلاقة مع إيران ليست كما ينبغي بسبب الموقف من الثورة السوريّة، وقد مضى على الانتخابات التي جاءت بها إلى الحكم ثماني سنين!
إ
نّ أسوأ ما يمكن أن تواجهه المقاومة بغزة هو أن تدفع ثمن تمسّك ساستها بكرسيّ الحكم، مهما كانت مبررات ذلك. إنّ الشعب الفلسطيني اليوم في غزّة، يحبّ حماس، ينتمي لمقاومتها، ويُقدّس سلاحَها، لكنّه يشعرُ بحقّ بعجزها عن الاستمرار في حكمه! وهو لو لم تشعره بفهمها له، وائتمارها بأمره، ربّما يتغيّر غدًا فيكرهها ومقاومتها وسلاحها أجمعين!
لا أتوقّع تحسنًا كبيرًا لأوضاع حماس بالضفة بعد المصالحة، على شباب حماس الأبطال هناك أن يواصلوا كفاحهم المتصاعد ضدّ آلة القمع العميلة، ولا أظنّ أن أحوال غزّة ستتحسّن بدورها أيضًا! ولا أظنّها ستُفرج بسُرعة على أهلها الصابرين.
لم تكن مشكلة غزّة مع العالم هي حكم حماس! إنّ مشكلة غزّة الحقيقيّة هي غابة البنادق والصواريخ التي نمت وتضخّمت خلال السنوات الثماني الماضية، ولا أظنّ العالم سيُغيّر ويبدّل كثيرًا في تعامله مع غزّة ما دامت بنادقُها مشرعة، وصواريخها على أهبة الانطلاق!
قريبًا ستعودُ السلطة لممارسة "التنسيق الأمني" الذي هو واجبها المُقدّس -وفق تعبير
عباس نفسه- في غزة كما تفعله الآن في الضفة، وحينها ستعود المقاومة بغزّة لمواجهة عدوّين لا عدو واحد، ولكن.. على كلّ حال.. بإمكان المقاومة أن تواجه المحتلّين والمنسّقين، وليس في طاقتها أن تواجه الشّعب!
هذا هو الإنجازُ الوحيد برأيي، لما سُمّي بالمصالحة.