انتهت ولاية الرئيس اللبناني ميشال سليمان يوم 25 ايار/مايو الماضي، وغادر قصر بعبدا بدون أن يسلم مقاليد رئاسة الجمهورية لخليفته المأمول. وكان مجلس النواب اللبناني، المنوط به انتخاب رئيس للجمهورية كل ست سنوات، قد عقد خمس جلسات على مدى عدة أسابيع، فشل خلالها في الاتفاق على الرئيس الموعود، سواء لعجز أي من المرشحين في الحصول على الأغلبية المطلوبة في جلسة المجلس الأولى، أو لعدم اكتمال النصاب في الجلسات التالية. ويعود أصل هذا الفشل إلى الاستقطاب الحاد في البلاد بين ما يعرف بتجمع 14 آذار، الذي يضم كتلة المستقبل وعدداً من القوى والشخصيات الإسلامية السنية والمسيحية، وتحالف 8 آذار، الذي يضم حزب الله وعدداً آخر من الشخصيات الإسلامية الشيعية والمسيحية.
لم يترك هذا الاستقطاب مساحة كافية للتوافق السياسي وأضعف الكتلة الوسطية في المجلس وفي الساحة السياسية عموماً. وبالرغم من أن وسائل الإعلام العربية واللبنانية أبدت اهتماماً ملحوظاً بفراغ مقعد الرئاسة خلال الأيام القليلة السابقة واللاحقة على الخامس والعشرين من أيار/ مايو ، إلا أن هذا التطور سرعان ما تراجع أو اختفى من نشرات الأخبار وأعمدة الصحف، وكأن أزمة سياسية بهذا الحجم في لبنان ليست سوى شأن معتاد، أو ليس غربياً أو مدهشاً على الأقل.
والحق أنه كذلك. ليس لأن لبنان يعيش أزمة سياسية مستحكمة منذ سنوات، وأن انتخاب ميشال سليمان في أيار/ مايو 2008 أصلاً ما كان له أن يتحقق بدون انزلاق البلاد إلى حافة الحرب الأهلية ومؤتمر الدوحة، وحسب، ولكن أيضاً لأن أغلب الرؤساء اللبنانيين منذ استقلال البلاد في 1946 وصل إلى قصر بعبدا بعد
فراغ رئاسي، أو توافق سياسي عسير الولادة، أو حرب أهلية. التأزم اللبناني هو بالفعل حالة مستديمة، والانفجار الأهلي متفاوت الحدة والزمن هو زائر متكرر، والانقسام السياسي البالغ بين الطوائف التي يتكون منها الشعب والدولة، وداخل كل طائفة، على السواء، سمة رئيسية وثابتة للاجتماع السياسي اللبناني. يوصف لبنان عادة بأنه الدولة العربية الأكثر حرية، والأكثر ديمقراطية، ويؤكد اللبنانيون، سيما اللبنانيون السياسيون، استقلال بلادهم، من جهة، وانفتاحها على جوارها الإقليمي العربي بكافة توجهاته، من جهة أخرى، ويبدون اعتزازاً ملموساً بحداثة لبنان وعبقريته وتقدمه واستلهامه لقيم وثقافة الغرب الحديث.
بيد أن هذا اللبنان في الحقيقة ليس سوى أسطورة. النسخة الأصلية للبنان تكشف عن بلد ضعيف، نهب للتدخلات الإقليمية والإقليمية، لم تتمتع دولته بسيادة كاملة على شعبه وأرضه إلا لفترة قصيرة منذ الاستقلال، وحتى هذه الفترة القصيرة محل جدل، ولم يكن الاستقلال في جوهره إلا وهم مضلل، سرعان ما فضحه وقوع القرار اللبناني أسير الصراعات والتوافقات العربية والغربية الرئيسية، حتى قبل أن تصبح إيران طرفاً محورياً في هذه الصراعات والتوافقات. وبالرغم من أن لبنان صنع ليكون منارة للغرب الحديث وقيمه السياسية وثقافته في الشرق، إلا أن صلة الدولة اللبنانية بالسياسي الحديث شكلية وواهية، حيث يستند مفهوم الدولة إلى عصبيات طائفية عصية، وتستند التعددية السياسية إلى نظام زعامي وراثي شبه مغلق، وتكاد تختفي المواطنة كلية. لبنان دولة صغيرة، بالغة الصغر، ولد أصلاً من متصرفية عثمانية صغيرة واقتطاعات محدودة من ولايات عثمانية مجاورة. يعود هذا الصغر المجهري، مساحة وسكاناً، إلى الولادة القيصرية للبنان، التي تركت خلفها مرارات عميقة في الجوار السوري وفي لبنان نفسه، وسعي الفرنسيين لأن يتمتع الكيان الجديد بأغلبية مسيحية. ومع الصغر، ومحدودية الموارد، جاء ضعف لبنان وحاجته المستدية للمساعدات والرعاية الاقتصادية والمالية الخارجية، سواء من الدول الغربية الرئيسة، المنظمات الدولية التي تخضع للقرار الغربي، أو الدول
العربية صاحبة المقدرات المالية والاقتصادية، التي تتمتع كدول أو أفراد بفائض مالي ما.
وإلى جانب الحاجة المالية والاقتصادية، ثمة حاجة أمنية وسياسية مستديمة أخرى للرعاية الخارجية وضمان البقاء. كل الأنظمة السورية السياسية منذ استقلال البلدين، مدنية أو عسكرية، ليبرالية أو مستبدة، نظرت إلى لبنان باعتباره كياناً مغتصباً من الكل السوري وخطراً دائماً على سوريا؛ وإلى أن وافق نظام الأسد في لحظة ضعف وشعور بالتهديد بعد اغتيال الرئيس الحريري على تبادل السفراء، امتنعت سوريا عن استقبال سفارة لبنانية في دمشق أو افتتاح سفارة سورية في بيروت. ولكن ليس سوريا، التي تواجد جيشها طوال عقود على الأرض اللبنانية، وحسب، بل والدولة العبرية كذلك. كلا الدولتين، لبنان والدولة العبرية، نتاج نظام ما بعد الحرب الأولى، ولأن النزوع للتوسع والهيمنة كان شرطاً أساسياً لتبلور المشروع الإسرائيلي وبقائه، فقد شكلت الدولة العبرية مصدر تهديد دائم للبنان الصغير والمجاور. وإلى جانب جارتيه الأقوى، ينتاب لبنان خوف متأصل من كل مشروع ذي توجه وحدوي أو جمعي في الإقليم. باعتباره الوليد المثالي لمنظومة التجزئة، اعتبر لبنان المشروع القومي العربي، مصرياً كان أو عراقياً أو سورياً، والمشروع الإسلامي، مصدر خطر وتهديد وجوديين.
منذ بداية التوسع الغربي في المشرق في القرن التاسع عشر، نظرت القوى الغربية إلى شعوب الشرق ليس كأمة، أو حتى ملل، عثمانية، بل كأقليات وطوائف متصارعة، دروزاً، مارونيين، أرثوذكس، سنة، شيعة، مسلمين، يهود …إلخ. ولأن لبنان أريد له أن يكون بقعة تجل مسيحي ماروني، كان لا بد أن يؤسس نظامه السياسي على حسابات وقواعد طائفية. لكل طائفة ليس حصتها البرلمانية ومقعدها الخاص في سلم السلطة، فقط، بل وحجماً محدداً في كافة مؤسسات الدولة وجيشها وبيروقراطيتها وجامعاتها ومدارسها. وكلما اختل التوازن المستقر بين الطوائف، اندلعت الحرب الأهلية، التي كانت دائماً شرطاً أولياً لبناء توازن جديد. أغلب الطوائف الللبنانية، بالطبع، لها امتدادات في الإقليم العربي والإسلامي؛ وهذا ما جعلها في النهاية مجرد أذرع سياسية للدول التي ترعى هذه الطوائف أو تطمح لأن تكون الراعية لها، عربية كانت أو غربية. وظفت فرنسا وبريطانيا التعددية الطائفية في جبل لبنان لخدمة مصالحها في المنطقة وتعظيم ضغوطها على المركز العثماني، وعملت فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إلى جانب مصر والعراق وسوريا والسعودية وإيران، على استخدام لبنان وأصدقائها فيه منذ ما بعد استقلاله لتعزيز نفوذها الإقليمي ووزنها في خارطة القوة الإقليمية. والحقيقة أن تصريحات الحرص على استقلال لبنان واستقراره وازدهاره، التي كانت تصدر عن مصر الناصرية (عندما كان لمصر دور إقليمي معتبر)، أو عن سوريا الأسد، أو عراق صدام حسين، والتي تسمع اليوم من السعودية، أو إيران، ليس المقصود بها إلا الحفاظ على موقع ودور هذه الدول في الساحة اللبنانية. بذلك، أصبح لبنان الضعيف، الذي يصعب أن يكون طرفاً في موازين القوة، مرآة لهذه الموازين، وعاش منذ الأربعينات حالة من الحرب الأهلية المستمرة، سواء الحرب الأهلية السياسية أو المسلحة.
يعرف الجميع اليوم أن من المستحيل انتخاب رئيس جمهورية لبناني جديد بدون التوصل إلى توافق بين كتلتي الصراع الرئيستين في الساحة اللبنانية. وهذا التوافق لن يقع بدون توافق سعودي – إيراني، من جهة، وفرنسي – أمريكي – روسي، من جهة أخرى. وبالرغم من أن دخول إيران الحثيث، بالشراكة مع سوريا، في البداية، ثم بما يفوق الدور السوري، بعد ذلك، فاقم من التدافع الطائفي في لبنان، فالواقع أن إيران لم تصنع نظام الانقسام الطائفي اللبناني، بل استغلته وحسب. ولكن الواقع الأكثر فداحة أن لبنان ليس أكثر من كيان بالغ التكثيف والفجاجة للنظام الذي تخضع له دول الإقليم كافة. وهذا ما أدى إلى انفجار حرب أهلية في العراق، ويهدد بدفعه إلى جولة أخرى من الحرب الأهلية، وما أوقع سورية في خضم حرب أهلية مريرة، وأوصل السودان إلى الانقسام، ويهدد اليمن بالحرب الأهلية والانقسام معاً. المشكلة ليست في لبنان فقط، بل أصلاً في نظام ما بعد الحرب الأولى الذي أسس لمشرق عربي – إسلامي قلق ومنقسم على ذاته.