قضايا وآراء

مآتم في شوارع مصر

1300x600
لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية هكذا استقبل المواطن العربي تلك الثورات التي أطاحت ببعض الأنظمة العتيقة المستبدة وكأن هذه الشعوب أمضت شبابها تناضل ضد الظلم والاستبداد والاستعباد حتى جاءت اللحظة وحانت الفرصة لاسترداد الكرامة المفقودة والحصول علي الحرية المنشودة..

بدأ الربيع العربي ساخنا إلا انه سرعان ما تباطأت قدراته علي المواجهة والتطهير لأسباب تخص بالأساس قوة الدولة العميقة وشبكات المصالح في هذه البلدان بالإضافة إلي عدم رغبة الدول الغربية في إقامة ديمقراطيات تسفر عن دول ناهضة تتفرغ للنمو والتطوير بعد ترتيب البيت الداخلي وحسم قضية التعددية والتشاركية والتداول السلمي للسلطة والذي من شأنه أن يقيم مجتمعات آمنه ومستقر تتخذ من العدالة والردع جناحين يبلغا دولة القانون أفاقا ممتدة في التحضر والتمدن.. وقد تلاقت رغبات تلك الدول برغبة دول المنطقة - التي لم يقف قطار الربيع علي محطاتها -  في تطويق الشرر المتصاعد بدعم كيانات رسمية وشبه رسمية للإطاحة بحلم الشعوب في الانعتاق من براثن التخلف والجهل والفقر والمرض والتبعية والفساد والاستبداد والاستعباد والتسلط والظلم والقهر..و..و..الناتج عن تسلط الحكم العسكري وقد نال الشعب المصري الطرف الأكبر من ذلك الحكم الذي يعد الأعتي في التاريخ من ناحية التسلط والشمولية فمنذ أن أسس محمد علي باشا الجيش المصري الحديث في عشرينيات القرن التاسع عشر(1821م) طامحا في ذلك الحين إلى فصل مصر عن الحكم العثماني مرورا بهزيمة احمد عرابي في معركة التل الكبير و دخول الانجليز القاهرة في 15 سبتمبر 1882 إلي انقلاب يوليو1952 وحتى يناير 2011 لم يعرف الشعب المصري الحكم المدني أو يمارسه .

حط الربيع رحاله في القاهرة بعد صيف طويل تساقطت فيه كل الأوراق وزحف الجفاف والتصحر علي كل المروج جاء أخيرا الربيع ووقف الوطن علي نافذة الثورة المجيدة واستطاعت جموع الشعب صنع التاريخ والإطاحة برأس النظام وتدشين حكم ديمقراطي يعتمد التعددية وتداول السلطة وفق انتخابات شفافة ونزيهة أفرزت مجلسين نيابيين ورئيس مدني ودستور.

 بدأ الشعب المصري في التقاط أنفاسه وسعي لتحسين وضعة الاقتصادي بعد أن تحسنت مناخات الحرية والعدالة والكرامة وعرف المجتمع المصري إنشاء الحزب بالإخطار وحرية التجمع والتظاهر والتعبير لم تعد موافقة امن الدولة شرطا في التوظيف والترقي وتراجعت ثقافة الرشوة كما سادت ثقافة حقوق الإنسان ,غاب المال السياسي عن الانتخابات وأصبحت التنافسية علي أساس البرامج المتنوعة معيارا مهما لحصد أصوات الناخبين..آلاف المشاهد تدل علي أن هذا الشعب قد تغير.. أصبح لا يأبه بالظالمين ولا يرهبه المتجبرين يعرف كيف ينتزع حقوقه ويبدع بين الحين والأخر علي طريق المجابهة الشاملة مع مؤسسة الفساد ونادي المنتفعين نعم هناك عقبات تبطئه إلا انه في النهاية يعرف هدفه ولا يتوقف عن تحقيق أماله وطموحاته رغم التضحيات والآلام التي هي سمه رئيسية من سمات الثورات الناجحة .

باغت الانقلاب العسكري المصريين وحاول أن يسرق حلمهم ويقتل فيهم الأمل الذي شب علي الطوق وأصبح له إرادة فاعله يستحيل معها أن يعودوا إلي الوراء فهم يعلمون منذ البداية أن قوي الشر تتربص بثورتهم وتتآمر علي دماء شهدائهم إلا انه لم يدر بخلدهم يوما أن يوجه سلاحهم إلي صدورهم وان يقتلهم قادة جيشهم .

 كانت تكلفة هذا الانقلاب باهظة ومؤثرة سلبا علي مسار هذا الوطن ومصيره 

علي الرغم من الإقبال المتواضع جدا والذي لم يتجاوز وفقا لمراكز أبحاث مستقلة 12% إلا أن الحكومة تعاملت معه علي انه يتجاوز 40 % حصد قائد الانقلاب منها ما يزيد علي 23 مليون وقد علق حمدين صباحي وحملته علي هذه النتيجة بقوله أن هذه النتيجة لم تحترم ذكاء المصريين  ولم تتفق مع الإقبال الضعيف علي التصويت .

والملاحظ كما تقدم في مقالات سابقة أن الانقلاب في كل خطوة عينه دائما علي الانتخابات السابقة فهو شاء أم أبي يجد نفسه في مقارنة مع الدكتور مرسي ويحاول في كل مرة  أن تكون الانتخابات شديدة الشبه بسابقتها من ناحية الإخراج والمظهر لا من ناحية الجوهر والمضمون مما يدفعني للقول بان هذه الإجراءات ما هي إلا محاكاة للانتخابات الديمقراطية علي غرار تجارب المحاكاة التي هي عملية تقليد تحاول أن تمثل وتقدم الصفات المميزة لسلوك نظام مجرد بوساطة سلوك نظام آخر يحاكي الأول , فهي محاولة إعادة عمليه ما في ظروف اصطناعية مشابهة إلى حد ما بالظروف الطبيعية .

ويأتي هذا الحرص من وجهة نظر التحليل السياسي لتسويق الانقلاب عالميا واكتساب شرعية دولية علي أساس أن العالم اعترف بنظام مرسي وقبل بهكذا انتخابات وعليه أن يعترف بهم لأن شرعيتهم مستمدة من انتخابات مشابهة معتمدين علي أن العالم غالبا ما ينسي التقارير والمشاهدات ومعظم الحقائق ويتجاوز عن التجاوزات والخروقات مقابل مزيد من الابتذاذ علي قاعدة حماية مصالحة وتبادل ادوار المساندة والدعم , وهي قراءة في الغالب صحيحة وتتماشي تماما مع النفاق الدولي المعهود ويمكن القول بان العالم الغربي بدأ أولي خطوات ابتذاذه لهذا النظام الانقلابي عندما أعلن عن قبوله بالتعامل مع النظام من اجل استكمال التحول الديمقراطي مع إرسال ممثلين علي مستوي منخفض لحضور حفل التنصيب وهو سلوك يمكن وصفه بالحَذِر في قبول النتائج والتعامل مع عواقبها. 

وقد عبر بعض المتابعين لحفل التنصيب الأسطوري غير المسبوق الذي أقامه قائد الانقلاب لتنصيب نفسه واستجداء ضيوف من الخارج لحضوره بأنه اصطناع لشرعية بروتوكولية يصنعها موظفون أجانب بعد عزوف الشعب عن إعطاء هذه الشرعية.. ولا أدري بأي وجه يطالب السيسي الشعب بالتقشف بعد هذا البذخ في المظاهر والنفقات.. 

انه يوم حزين تقام فيه المآتم في كل شارع به شهيد أو معتقل أو جريح أو مطارد.. إذ بأي حال تتلقي أم الشهيد وزوجته وأولاده وذويه صور الرقص والطرب والصخب احتفاء بتنصيب القاتل.. ودماء الشهداء لم تجف والقلوب الموجوعة ما زالت تأن وتتألم ..

لقد أصابني شعور بالضيق والحزن والأسي والألم عندما كتبت زوجة أخي وصديقي الشهيد الدكتور خالد كمال الذي استشهد وهو يقوم بواجبه كطبيب في أول لحظات فض اعتصام رابعة  تدعوا ربها وتستمطر رحمته بعد أن شاهدت القاتل يخرج في زينته وحوله أعوانه وحاشيته تقول: ونحن في الثلث الأخير ربي ادعوك وأتوسل إليك أن تنتقم من السيسي ومحمد إبراهيم وأعوانهم وكل من أيدهم اللهم انتقم منهم اشد الانتقام وارنا فيهم عجائب قدرتك اللهم انتقم منهم في اعز ما لهم ربي أنت تعلم حالي تعلم كيف ينزف القلب وكيف انكسرت النفس كيف أن العيون لا تكف عن الدموع كيف تمر علينا كل ليلة أنا وأولادي كيف أن كل الآمال التي بنيناها للسنين القادمة هدمت كيف أن السعادة أصبحت لا تعرف طريقا إلينا.. كيف أن الحياة أصبحت تعب ووحدة ودموع وانكسار اعلم ربي أن هذا قدرك وانه الخير ولكن أرجوك لا تغضب علي فأنت اعلم أن كلامي هذا ليس سخط والعياذ بالله علي أقدارك أنما هو الألم الذي يعتصر القلب الذي يجعل الدموع لا تجف انه الضعف الذي أصابني بعد فقدان اغلي رفيق فقدان الإنسان الذي لا يعوض مهما وصفت هذا الألم فسأعجز عن تصويره كما يجب لكن عندما تهدأ القلوب وتنام العيون فتلك أصعب لحظات تمر علي ..رحمة الله بقلوب ضعيفة رحمة الله بقلوب الأطفال التي يتمت رحمة الله بقلوب الأمهات الثكالي رحمة الله بقلوب الزوجات الأرامل رحمة الله بقلبي الضعيف ورحمة الله بالفقيد الرفيق الغالي خااااااااااالد.

أدركت أن آلاف الشهداء لهم آلاف الأسر تشعر بنفس الإحساس من الألم والحزن والفراق والوحشة والظلم والبطش لا يسعهم في هذه الأيام ألا الالتحاف بالصبر والإيمان واستحضار معاني اليقين والثبات وان الله لا يضيع اجر المحسنين كما انه لا يهدي كيد الخائنين . 

نعم يعزي المصريون بعضهم بعضا لضياع الحقوق والحريات ووفاة دولة القانون واختلال ميزان العدالة لكنهم متمسكون بالأمل طامعين في تصحيح المسار من خلال الاصطفاف الوطني واستعادة ثورة يناير.

باحث سياسي- مركز الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان