عندما تخرج المعارضة
الجزائرية من ندوتها للانتقال الديمقراطي المنعقدة، بتوصيات إحدى عشرة، تتولى هيئة منبثقة عن المشاركين تشكل لاحقا، متابعتها في إطار من الحوار والتشاور، فإن هذا حتما مؤشر نجاح، ودليل جدية وصدق، خاصة وأن هذا التوافق هو عصارة مدارس سياسية متباينة.
وإن سلّمنا لذوي النزعة التشائمية المقاربة للمشهد السياسي الجزائري، أن المصلحة السياسية هي من فرضت منطقها، فانسلخ الجميع عن نرجسيتهم وتنازلوا عن معتقداتهم السياسية والفكرية لتحقيق مكاسب سياسية آنية، فإن المصلحة التي تتجسد في توصيات تؤكد على حق الشعب في اختيار حكامه ومحاسبتهم وعزلهم، وتدعو إلى الحوار واللاإقصاء ورفع القيود عن حرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، وبناء الاقتصاد وفق رؤية علمية حديثة، ومحاربة الفساد بكل أشكاله، وتبدي استعدادا للالتزام بوثيقة مرجعية تعرض على الشعب والسلطة، هي بكل تأكيد مصلحة كل الجزائريين دون استثناء، وهو إنجاز يحسب لكل أولئك الخصوم السياسيين.
لقد رأى بعض أصدقائي أني مُتخم بالتفاؤل وأني أنفق منه بسخاء، كون مفاتيح اللعبة السياسية كلها بيد السلطة، وكون هذه المعارضة مفلسة، فهي عبارة عن شتات سياسيين فاشلين يسعون لمحاربة البطالة السياسية في أفضل الأحوال، وأنا أعذرهم بالنظر إلى حالة ركودٍ سياسٍي ماثلة في أذهان جيل ومشوشة لوعي جيل سبقه، لكني بالمقابل لا أوافق أحكامهم، كونها تصدر عن قراءة راكزة في الأثر والنتيجة وغافلة للسبب والمسبب، إذْ لم يكن للسلطة أن تمضي مستفردة برسم التوجهات ومحتكرة الأدوات والتسيير، خاصة في خضم حالة الرج التي تشهدها كذا منطقة عربية، لولا أنها أمنت جانب شعب وعيه مكويٌّ بفتنة العشرية الحمراء، متحصنة بالنفقة والسخاء، ولولا امتهانها لمعارضة مشتتة ضعيفة عاجزة عن كسب ثقة الشعب، فإن كانت السلطة لازالت تراهن في خطها على اللعب بورقة الأمن فتضمن ثبوت الحالة الأولى على ما يحقق رغبتها ، فإن ورقة تشرذم المعارضة التي تسم الحالة الثانية لم تعد مضمونة، وهذا يؤدي تلقائيا ومنهجيا إلى ارتفاع في مستوى التوقعات المؤدية إلى صورة أخرى في المشهد السياسي.
ورغم أن التحولات الكبرى في الاجتماع البشري قد تستغرق عقودا، إلا أن حالة من الهزيمة المعنوية وعدم الرضا على مآلات الأمور طبعت الميزاج العام بما في ذلك النخب، وهو امتعاض يرى أن هذه المآلات لم تكن بحجم تضحيات شعب الجزائر خلال العقد الخاتم للقرن العشرين، فثلث مليون قتيل وآلاف الجرحى والمفقودين، فضلا عن تلك الآثار النفسية السلبية والكلفة المادية والانتكاسة الحضارية، كلها لم تكف ثمنا لتحصيل مكتسبات ظاهرة تدفع نحو بلوغ الأهداف، فلربما كان هذا الميزاج مصدر مهم لتلك النزعة المتشائمة.
وعلى كل حال وأيا كانت المخرجات والمحصلات المنظورة، يبقى ما حدث حلقة تنضوي تحتها خبرات تشكل جزءً من الوعي الجمعي، فضلا عن أنها مرحلة تؤثر حتما في صيرورة الأحداث التالية أو الآتية، وهو ما ظهر لاحقا إن على مستوى الرأي العام أو النخب السياسية المختلفة بما في ذلك بعض الساسة خريجي النظام وعلى أعلى المستويات، وهذا في مدى انعكاس ماجرى من ثورات في المنطقة العربية على الفهم والسلوك.
فقد خاطب الرئيس السابق اليامين زروال (1995 ـ 1999) في شهر مارس الماضي الجزائريين في رسالة مطولة كان أهم ما جاء فيها دعوته السلطة الحالية تسليم المشعل وتمكين الجيل الحالي من تسلم السلطة، كما شاركت رموز محسوبة على مدرسة النظام في ندوة
الانتقال الديمقراطي، على غرار مرشح رئاسيات أفريل 2014م والأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني علي بن فليس، ورؤساء الحكومة مولود حمروش وبلعيد عبد السلام وسيد أحمد غزالي ومقداد سيفي وأحمد بن بيتور، إضافة إلى شخصيات أخرى مهمة.
لكن أهم مؤشر في اعتقادي على محصل خبرات تراكمية قبلية كشفه الحراك المجاور، هو تطور لغة الخطاب السياسي، من لغة تخاطب العواطف، حادة مشبعة بالخطاب الشاحن، لا تفصح عن رؤية واضحة، إلى لغة تخاطب العقل، مشبعة بطرح يشخص المشكلة ويقدم الحلول لها، ظهر هذا التطور في خطاب قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنفسهم، وقد حاولت بعض الأصوات استغلال الثورات والانتفاضات لاستخدام لغة الشحن تلك، من داخل الجزائر وخارجها، فلم تجد أدنى تجاوب معها، ليس لأن المجموع راض بالوضع والحال، فقد قاطع انتخابات الرئاسة الفائتة بشكل لافت للنظر، كما قاطع من قبلها عديد المحطات، لكن الشعب أضحى يرنوا لتغيير أكثر ضمانا وأقل تكلفة.
الواضح كل الوضوح، أن المعارضة والشعب يتوافقان على ضرورة التغيير السلمي والانتقال عبر مرحلة انتقالية إلى وضع جديد لدولة حديثة، تستمد مرجعيتها من بيان أول نوفمبر 1954م، وان دائرة هذا التوافق في اتساع دائم، لأن ورقة الأمن الإجتماعي التي يلوح بها النظام بين الحين والآخر، باتت أيضا ورقة في يد المعارضة تخاطب بها الرأي العام، والحديث هنا عن الأمن الاقتصادي المهدد بفعل اعتماد الدولة على ريع النفط فحسب، وعجزها عن خلق بدائل أخرى ترفع من خلالها الناتج القومي، ناهيك عن الفساد المستشري في جميع مفاصل مؤسسات الدولة.
إن اتساع دائرة الداعين للإصلاح و المطالبين بالانتقال الديمقراطي السلمي، انطلاقا من أرضية واحدة ووفق رؤية مشتركة، خاصة مع انضمام العديد من المحسوبين على مدرسة النظام الجزائري مع أمل التحاق آخرين، تنبئ عن توجه شبه عام قد يحشر السلطة في زاوية التجاوب ولو مرحليا، فتكون البلاد بذلك قد تجنبت الإنزلاقات و قدمت نموذجا آخرا في الانتقال نحو دولة القانون والحريات.