كتب سمير صالحة: انفجار الأوضاع الأمنية بهذا الشكل الدراماتيكي الواسع في
العراق، واشتراط الإدارة الأميركية على العراقيين تغلبهم هم أنفسهم على انقساماتهم وتشرذمهم قبل مطالبتها بتقديم العون، يتركنا أمام تساؤل: من الذي ساهم في إيصال العراق والعراقيين إلى هذه النقطة؟ وما الذي قدمته واشنطن من خدمات إلى الشعب العراقي منذ عام 2003 وحتى اليوم؟
عملية وضع اليد على الموصل والمدن المجاورة بتاريخ 11 يونيو (حزيران) 2014 المنصرم التي نفذتها «داعش» مع مجموعات من حلفائها، كان من الطبيعي أن تحرك الأصابع باتجاه الأرشيف في الشرق الأوسط، وما كتبته بتاريخ 11 يونيو 2012؛ أي قبل عامين تحت عنوان «العراق والتحديات»، واستفز وأغضب كثيرين من القراء يومها، لأنني لخصت لهم «صورة الوضع القائم في العراق ومسار العملية السياسية، والمخاطر المحدقة والسيناريوهات السوداوية التي ترسم والتي لم تعجبهم كثيرا يومها».
المشروع الطائفي المذهبي يتقدم بنجاح منذ عام 2003 وحتى اليوم، فكثيرون، وفي طليعتهم أميركا طبعا، يحاولون زرع وترسيخ مسألة مستوردة غريبة على العراق والعراقيين، وتحويل هذه الثروة الكبيرة من التعايش الديني والاجتماعي والعرقي إلى بؤرة توتر وانفجار يصب في خدمة مشروع التقسيم والتفتيت، الذي وضع دستور عام 2005 أسسه ومعالمه.
الدستور العراقي هو دستور كونفدرالي المزاج والميول؛ في التطبيق والممارسة، رغم أنه فيدرالي على الورق، ولم يحمل للعراق والعراقيين سوى المزيد من المخاطر والأضرار، وهو يراد له أن يكون الشاهد الحي على فشل تجارب التعايش وتسويقه كخطوة تسبق الانفصال بغطاء قانوني وإرادة شعبية.
أميركا هي التي تحملت الخسائر والمخاطر، لكن إيران هي التي غيرت كل ذلك إلى انتصارات سياسية واستراتيجية دون أن تدفع أي ثمن. هل هو اتفاق وتفاهم أميركي – إيراني غير معلن بعد على تقاسم العراق وثرواته، أم أنه مقدمة تسهل لها واشنطن مباشرة عبر منح إيران الفرصة التي تريدها، وهي توسيع رقعة التمدد الشيعي ليكون الرد الأنسب على «الربيع العربي السني» الذي تدعمه كثير من الدول العربية والإسلامية والغربية؟
أنقرة التي كانت تتبنى رفض النماذج التي تقدم للعراق وتتمسك بوحدته، أرضا وشعبا، هل تخلت عن سياستها ومواقفها هذه؟ ما هذا التقارب والانفتاح الأخير على قيادات شمال العراق؟ هل هي المصالح التجارية والاقتصادية والنفطية أم القلق من مسار المشروع السياسي في العراق بشقه الشمالي تحديدا؟
أنقرة التي كسبت احترام وتقدير العراقيين بسبب موقفها التاريخي من الحرب الأميركية، هي اليوم بين مطلب توضيح ما يجري لقطع الطريق على اتهامات المالكي الأخيرة بأن تركيا تلعب في المنطقة سياسة تحمل الكوارث والحروب الداخلية، وأنها ستكون هي المتضرر الأول فيها، وتوضيح رأيها فيما يقال حول أنها تسير بالطريق نفسه الذي تتقدم فيه إيران بالعراق.
صلاحيات الإقليم الكردي هي فوق صلاحيات الدولة الفيدرالية؟! قيادات شمال العراق تريد أن تأكل من الصحنين؛ الأميركي والإيراني، في الوقت نفسه. وكل ما بني على ضوء نتائج الاحتلال الأميركي للعراق باطل ومرفوض.
الهوية العراقية هي اليوم مركز الثقل في كل ما يجري، البعض يريد تدميرها وسحقها. عدد الخنادق التي تنبش يوميا في العراق يتزايد، ومن يسهم في حفرها جنبا إلى جنب مع رجال السياسة هم كثير من رجال الدين والعلماء. نفط العراق فرصة كبيرة في حماية وحدته وهويته، لكن البعض يصر على تسليم هذه الثروة للخارج؛ متجاهلا أن ما يقوم به يعني تعريض الهوية والانتماء للخطر.
يبدو أن الرد الوحيد على كل هذه المشاريع والمؤامرات التي تحاك ضد العراق هو ربيع عراقي عاجل، لا علاقة له بمشروع «الفجر الجديد» بتوقيع من لا يهمه كثيرا العرق واللون وتأجيج النعرات الطائفية والمذهبية، ربيع يقف في وجه من يريد إطلاق الرصاصة الأخيرة على ما تبقى من أمل ورغبة في التعايش المشترك بين أبناء هذا البلد. الغضب الشعبي لا بد أن يتحول إلى ثورة وطنية شاملة، قبل أن يجره البعض إلى ورقة وفرصة للتقسيم والشرذمة.
مرة أخرى أستميح القارئ عذرا، الأرشيف لا يخون والتطورات المتلاحقة في العراق لن تغفر للكثيرين، فعندما بحثت في مقالة «من يحمس المالكي» بتاريخ 25 أبريل (نيسان) 2012، تذكرت أنني كتبت في أعقاب التلاسن بين إردوغان والمالكي، وقتها، أن الأخير ذكر الأتراك.
إن العراق قادر على لعب أوراق مماثلة في تركيا نفسها إذا ما استمرت في سياسة التدخل في شؤون بلاده على هذا النحو، وتحول الحديث بينهما إلى اتهامات وجهها المالكي لإردوغان بالتحريض وتأجيج الطائفية والمذهبية والعدائية، ورد قوي وفوري من قبل إردوغان يحذر فيه من تمركز المذهبية في العراق، ومن أن الإدارة السياسية بدل أن تقطع الطريق على هذا الكابوس، تتبنى سياسة تساهم في تعميمه وترسخه.
في مقدمة الأسباب التي تقود إلى توتر العلاقات بين أنقرة والمالكي ووصولها إلى هذه النقطة، يأتي الدخول الإيراني القوي على خط الأزمة العراقية وتزايد نفوذها هناك، بعدما خذلت واشنطن كثيرين، وبينهم تركيا، بمغادرة استفزازية متعمدة تمهد للسيناريو الأقرب تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات تنتظر إعلان ولادتها، وهو ما يجري الترويج له على أنه النموذج المرتقب في الشرق الأوسط الجديد، لكثير من الدول العربية والإسلامية القلقة من سيناريوهات مماثلة، وفي مقدمتها تركيا طبعا.
أصوات في تركيا بدأت تتخوف من أن يكون تحرك المالكي ضد أنقرة، يندرج في إطار خطة مبرمجة بين بغداد وطهران وقعت عليها دمشق وواشنطن وتل أبيب، والمستهدف الأول هو إردوغان، حجر العثرة الذي يزعج هذا التكتل، ويعرقل حساباته ومصالحه وإلا لكانت واشنطن، مثلا، استمعت إلى ما قاله وزير الخارجية التركي داود أوغلو خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، حول السلوك الجديد للمالكي حليفهم المفضّل في العراق.
أنقرة قلقة وحذرة، فهناك، كما يبدو لها، مصالح مشتركة، وفي هذه المسألة تحديدا، بين المالكي وطهران وواشنطن، لا تعرف ما إذا كانت ستتحول إلى مشروع اصطفاف عراقي - إيراني - أميركي يشمل تلزيم الكثير من الملفات الإقليمية إلى إيران نفسها لقطع الطريق على أي قراءة إقليمية تتعارض مع مصالح هذا الثلاثي.
(الشرق الأوسط السعودية)