كتاب عربي 21

الحزم مطلوب .. لكن ليس بأي ثمن

1300x600
جاءت الحادثة الإرهابية الأخيرة التي  أسفرت عن استشهاد خمسة عشر عسكري، لتفجر في تونس جدلا عاصفا حول مشروع قانون مكافحة الإرهاب.

هذا القانون تعود قصته الى عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي استغل عملية الحادي عشر من سبتمبر لكي يقدم نظامه كنموذج في مقاومة الإسلاميين دون تمييز بين معتدلين أو متشددين. وعلى هذا الأساس انخرط بقوة في الحرب على الإرهاب مستفيدا من الاندفاع الأمريكي في هذا الاتجاه. وعندما صدر القانون عام 2003 وصفه المحامون ونشطاء حقوق الإنسان بالقانون سيء الذكر، نظرا لاحتوائه على تجاوزات خطيرة لعدد من الحقوق الأساسية لكل مواطن توجه له تهمة معارضة النظام.

بعد الثورة كانت أغلب القوى تتجه نحو إلغاء هذا القانون ظنا من السياسيين بأن مبرراته الموضوعية والواقعية قد تم تجاوزها، لكن توالت الأحداث لتجعل من تفعيل هذا القانون ليس فقط مطلب الأمنيين وإنما كذلك  مطلب قطاع واسع من السياسيين ونشطاء المجتمع المدني. 

كشفت الحرب الدائرة مع المجموعات المسلحة والتي تخوضها تونس بهذا الحجم لأول مرة في تاريخها الحديث، أن الكلفة البشرية والمادية لمثل هذا الصراع عالية، خاصة في بلد ضعيف الإمكانيات مثل تونس. ونظرا لتوالي سقوط الأمنيين والعسكريين في هذه المواجهة ألح هؤلاء على ضرورة توفير غطاء تشريعي لهم يحميهم ويمكنهم من صلاحيات أثناء القيام بعمليات ميدانية. وهو ما تمت الاستجابة له، حيث تشكلت لجنة متعددة الأطراف وأنجزت مشروع قانون، لكنه أثار جدلا بين أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ومن خارجه . لقد انقسم هؤلاء بين مدافع على أن يكون القانون غير متعارض مع حقوق الإنسان، وبين شق آخر من النواب من رأى في ذلك ترفا لا يتلاءم مع المخاطر التي تهدد تونس، اعتقادا منهم بأن الإرهابي يجب ألا يتمتع بحماية خاصة، حتى لو ورد ذلك في المواثيق الدولة.

هذا التناقض غير الطبيعي في بلد عاش ثورة قد زاد في تقسيم النخبة السياسية، وجاء نتيجة التوتر الذي يسود البلاد بسبب عدم القدرة على الحسم  في ملف الارهاب في وقت قصير. لقد بينت الوقائع أن مواجهة هذا الخطر بالوسائل التقليدية بالنسبة لبلد هش مثل تونس ليس بالأمر الهين. فالجماعات الراديكالية تدفع دائما بالدولة والمجتمع الى التفكير في اللجوء الى الحلول القصوى، بما في ذلك التورط في اتخاذ إجراءات قاسية ومتعارضة أحيانا مع مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة.

في هذا السياق تتنزل القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة لمواجهة التيار التكفيري، ومن بينها إيقاف بعض المنابر الإعلامية وغلق المساجد التي بقيت بعيدة عن سيطرة وزارة الشؤون الدينية، والتي تستعمل لترويج خطاب تحريضي ضد الدولة. وهي القرارات التي ولدت انتقادات لدى البعض خوفا من أن يكون ذلك مقدمة لتراجعات من شأنها أن تمس من الحريات العامة، وخاصة حرية المعتقد وحرية التعبير. فالسيناريو المصري لا يزال يثير المخاوف لدى الكثيرين في تونس الذين يطالبون بأن يحافظ المسار الانتقالي على التمسك بعلوية القانون والحرية. كما أن هناك خوف من احتمال العودة الى سياسة الرئيس بن علي التي ترتكز على مقايضة التونسيين بتقديم الأمن على حساب حقوق الإنسان.

في هذا السياق يمكن أن تختلط الأوراق بشكل خطير. إذ هناك أصوات بدأت ترتفع داعية الى فتح ملف الحركات الإسلامية وفي مقدمتها حركة النهضة من أجل محاسبتها على الأخطاء التي ارتكبتها سابقا، والتي أدت الى دعم الجماعات الراديكالية في البلاد. وبعض هذه الأصوات ترفض الاعتراف بخطورة المرحلة ودقتها وقد تدفع نحو التصعيد الأيديولوجي والسياسي. وفي المقابل تستفيد التنظيمات العنيفة من هذا الغلو المضاد ومن بعض الاجراءات الاستثنائية لتقوم بحملة دعائية تقدم من خلالها الإسلام وكأنه عقيدة مضطهدة في تونس، كما يجعلون من أنفسهم المدافع الشرعي والوحيد على المقدسات. وهو ما من شأنه أن يغذي كل أشكال التطرف والعنف.

تونس اليوم في أشد الحاجة لقيادة تمسك العصى من الوسط، حتى لا يتم التورط في اختيارات تعطي نتائج مضادة للعقلانية السياسية المطلوبة جدا في المراحل الانتقالية. لكنها أيضا يجب أن تكون سياسة حازمة ومنتجة وقادرة على تحقيق نتائج ملموسة. فالمعركة في البلاد أصبحت في جزء منها معركة وقت. إذ كلما تأخرت لحظة الحسم ازداد المشهد تعقيدا، وتضاعفت معه المخاطر المهددة للمسار برمته. 
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع