كتاب عربي 21

السكوت من ماس معلّف باليورانيوم المخصب

1300x600

لا شيء يفقع مرارتي ويسبب لي تضخم البروستات، مثل العبارات المعلبة (الكليشيهات)، التي ترد في التقارير والمقالات في الصحف العربية. خذ مثلا "دولة كذا الشقيقة"، هذه عبارة لا ترد إلا على ألسنة الساسة والإعلاميين العرب، وحتى لو انطبق الوصف مجازا على دولتين أوربيتين، فلا مجال لانطباقه على دولتين عربيتين. 

يعني "الجارة العزيزة دولة كذا" معقولة إلى حد ما، رغم أنه لا الجزائر عزيزة في نظر المغرب، والعكس صحيح، ولا ليبيا عزيزة عند السودان أو مصر، وعندك عبارة مثل: بحث الرئيس العربي "مزمن بن مدمن آل كرسي" مع الرئيس الأمريكي "القضايا ذات الاهتمام المشترك"، أين موقع "ذات" من الإعراب هنا؟ أليس من الواضح أنها تعود إلى "القضايا"؟ طيب وهل القضايا كائن عاقل له اهتمامات مشتركة او منفردة؟ (دعك بالطبع من أن الرئيس الأمريكي لا يناقش أمرا مع الزعماء العرب، بل يأمر وينهي، وعلى الزعيم أن يأتي برد كذاك الذي أتاه السيد حسني زوج سوزان ثابت آل شرم الشيخ، عندما نادى حاجب المحكمة على اسمه في أول جلسة مثل فيها أمام القضاء فكان رده: أفندم، وهذه مفردة خنوع تعادل في الفصحى "سمعا وطاعة" وترد على ألسنة الجنود عند تكليفهم بأمر ما من قبل الضباط).

الموّال أعلاه مقدمة للحديث عن كثير من الكلام السخيف الذي ظل يُكتب خلال الأيام الماضية، وسيظل يكتب خلال الأيام والسنوات القليلة المقبلة حول ما يجري حاليا في غزة، وسيجري في الضفة الغربية وغزة من قصف وسفك دماء بالجملة، وما من جملة تستفزني في تلك الأحاديث مثل "الصمت العربي" والتي تأتي دائما في صيغة استفهام استنكاري: إلى متى يستمر الصمت العربي؟ ما الضير في الصمت وما العائد الإيجابي من اللغو (الذي هو نقيض الصمت في السياق الذي أنا بصدده الآن)؟ في السودان مثل دارج يقول: الكحة ولا صَمّة الخشم، وصم يصم تعني هنا أغلق يغلق، والخشم عند أهل السودان هو الفم، ومعنى المثل هو أن السعال خير من إبقاء الفم مغلقا، وهذا من أسخف ما سمعت، ولكن دعونا من السودان وأهله ولنبق مع الصمت العربي الذي يستنكر الكتاب الصحفيون "استمراره"، هم بالطبع يقصدون الحكام العرب ويتساءلون: لماذا هم ساكتون على ما يجري في غزة؟ 

وفي تقديري فإن هذا التساؤل أيضا سخيف وخاطئ، فحكامنا – ما شاء الله عليهم – ذوي حلاقيم عليها القيمة، والصنعة الوحيدة التي يتقنونها هي طق الحنك بالسجع والجناس والطباق، وبالتالي فإن معايرتهم بالصمت فيه تجنٍّ وظلم لهم، أما إذا كان التساؤل عن صمتهم عن العمل، فإنني أرد على التساؤل بمثل سوداني آخر يقول: الحيلة قليلة والخشم بليلة، والخشم كما أسلفنا هو الفم، والبليلة قد تصنع من حب الحمص أو الذرة أو اللوبياء، وكي تنضج فإنها تظل في حالة فوران مصدرة همهمة وكأنها بركان، والمثل يطابق "العين بصيرة واليد قصيرة" إلى حد كبير، ولكنه يناسب المقام هنا أكثر من "العين البصيرة........"، والشاهد يا أعزائي هو أننا نعرف يقينا أن أسوأ ما في حكامنا المزمنين، أنهم يكثرون من اللغو، ومن ثم فإن اتهامهم بـ"الصمت"، غير صائب، بل ينبغي أن نشجعهم على الصمت، فسكوتهم ليس "من ذهب"، بل من يورانيوم مخصب تتخلله فصوص من الماس الحر، بينما كلامهم "من اسبستوس"، وهو كما نعرف معدن يسبب السرطان لكل من يتعرض له

وسيظل معظم -إن لم يكن كل العرب- يعانون من الذل والقهر، ما لم ينتبهوا إلى أن حالهم لن ينصلح بربيع هنا وربيع هناك، فـ"الربيعات" المجزأة، وكما رأينا بالأعين المجردة تقود إلى "خريفات" وتخاريف، والمطلوب والمخرج هو ربيع عربي شامل في توقيت واحد بهتاف واحد بسيط يستحسن أن يكون بـ"المصري" لأنه لهجة مفهومة لدى كل العرب: قاعدين ليه ما تقوموا تروحوا.