غزة 2014 لا تبوح بمعانيها إلا لذي بصيرة وقلب مؤمن. قادة
الربيع العربي أو من وضعتهم العملية الانتخابية الاولى في مقدمة المشهد (ونسميهم مجازا بقادة الربيع) لا يفهمون بما يكفي معاني معركة غزة 2014. إنهم يظهرون كل أشكال التضامن العاطفي و الكثير من الدعاء ولست أشك في الدموع التي تسيل أمام صور الشهداء والخراب الذي يسلط على المربع العجيب الذي اسمه غزة. لكن ذلك لا يذهب إلى أبعد من التعاطف والاعتبار الأخلاقي أما تحويل غزة إلى إمكان ثوري واسع قابل للتنظير فاعتقد انه يحتاج قراءة أخرى تقوم على الشجاعة القلبية و القدرة على بدء المعارك.
خيار الهجوم على الوضع الدولي
لا أعتقد أن من يقود
الحرب في غزة الآن يجهل الوضع الدولي وتوازناته و مواضع القوة فيه أو يتجاهل ضعفه وقلة حيلته وهوانه على الناس ولكنه بوعي حاد يذهب إلى تنفيذ خياره الذي قرره ويضع العالم أمام نتيجة قررها هو لا قررت له طبقا لمصالح عدوه...لذلك يجعل من غزة بؤرة إرباك للعالم بما يجبره على النظر إلى غزة بصفتها الفئة القليلة المؤمنة بخيارها الذي أنضجته في حرب دائمة ...
غزة هي دفع خيارك الشخصي بقوتك المتاحة وإجبار العالم على سماعك والتفاعل معك طبقا لنتائج عملك الذي فرضته أنت ولم يفرض عليك وكلما رفعت السقف ألزمته بالخضوع لسقفك. إنها استراتيجية الثوار وتكتيكاتهم...إنها ضربة داوود الصغير على جبهة جالوت القوي وتغيير المعادلة رغم فارق القوة المادية.
الظاهرون في مشهد التضامن مع غزة ممن آمن بالربيع العربي لا يفهمون غزة ولا يبدو انهم يريدون قراءة الدرس الغزاوي فهم يقومون بأمرين :
الأول: إعادة إنتاج أشكال التضامن التقليدي مع الفلسطيني الضحية الأبدية بتوفير دعم إعلامي يقوم على خطاب عاطفي وإنشائي وتوفير مستلزمات طبية لتغطية النقص المؤقت في مكان النزاع لحين دخول الحدث في النسيان.
الثاني : يبدؤون في دراسة أشكال التضامن الكبرى ولكنهم ورغم قوة الدرس الغزاوي الآن وهنا يبدؤون في مراعاة موقف عدوهم وقدرته وما يمكن أن يرد به الفعل ويضعون قائمة من المبررات ويغطونها بكلمات كبيرة أصغرها الوضع الدولي لا يسمح. والظرفية غير مواتية. والتوازنات الداخلية والبعض يزيد سلميتنا أقوى من الرصاص. المنطلق هو الحالة القطرية أولا والحجج دوما تقنع أصحابها. ثم نعرج على غزة (او فلسطين) فهي الحالة المكملة للمشهد النضالي الوطني. لكن أبدا لم يصل التضامن إلى تحويل الحالة القطرية إلى هجوم غزاوي. وهنا يكمن عدم فهم المعركة مثلما تم إساءة فهم شعار الشعب يريد تحرير فلسطين الذي سارت به الشوارع قبل المطلب القطري.
أليست مزايدة على ثوار الأقطار المشغولين بهمهم اليومي؟
من منطق قبل غزاوي هي مزايدة ورفع سقف بطريقة غير واقعية. بل تظهر كاستعادة لتلك المقولات العبقرية لا صوت يعلو فوق صوت المعركة لكن هنا حصل الاختلاف في المنظور. الشعارات القديمة كانت ترفعها الأنظمة وتبتز بها ولاء شعوبها فكل المطالب الوطنية في الحرية والتنمية مؤجلة لما بعد معركة تحرير الوطن المحتل عاشت بهذه الكذبة الكبيرة كل الأنظمة القومية وخاصة منها نظام البعث السوري منذ احتل جزء من ترابه ولم يحرره.
كيف يمكن استنساخ غزة في بلدان الربيع العربي؟
غزة 2014 التي تذكر في سياق الحروب بغزوة بدر من حيث انها لا تراعي توازن القوة الحربية وتتجاوزها إلى فرض نوعية المقاتل وتقنية الاشتباك دون مراعاة استراتيجية المعارك الكبرى التي ليست إلا لغو فارغا. لقد حددت غزة ما ينبغي أن يكون وكيف يكون فالمنتصر يضع شروطه وهذا قانون الحرب الأهم.
بلدان الربيع العربي التي تورطت في الانتخابات وخاصة تونس ومصر أفرغت الثورة من اندفاعها وكشفت أن المسار تعرض للخديعة بحكم قلة التجربة وغياب الرؤية الثورية لدى القيادات السياسية التي تصدرت المشهد سواء في الشارع أو بعد الانتخابات فقد أدخلت في سياق لا تعرف تفاصيله وواجهت ماكينة الإدارة المحافظة وحكمت بقوانين متخلفة ثارت عليها ولم تغيرها. فصارت تعيد انتاج أسلوب العمل الذي كان يدير به الفساد ماكينته. لقد خدعت القوى المؤمنة بالربيع العربي ولكنها واصلت خديعة نفسها فلا هي تقف وقفة تأمل ونقد ذاتي ولا هي تغير أسلوب العمل أثناء العمل فتثور بالنص ما لم تثور بالشارع. بل إن المسار الانتخابي (المؤسساتي ) تحول الى وسيلة لابتزازها فهي ملزمة بالمرور عبر الصندوق للبقاء على قيد الحياة والنظام القديم يعرف أن هذه نقطة ضعفها وقد تخلت عن الشارع الثائر ولم يعد بإمكانها استثارته لصالحها فافرغ المسار انتخابي من كل احتمالات التجذير المنتج للتغيير الحقيقي وفي الأخير ستدخل قوى الربيع العربي الانتخابات (الحالة التونسية ) لتبرر فقط القسمة مع النظام القديم الذي أعاد تملك مواقعه وحقوقه وعاد شريكا وطنيا لمن ثاروا عليه ذات يوم. نتائج الانتخابات معروفة سلفا والعراك كله على المقادير.
هل كان هذا واضحا منذ البداية للثوريين ؟ يمكن استعادة كل المقولات عمن انجز نصف ثورة فخسر النصفين وارتدت عليه المنظومة القديمة لكن العذر الذي يمكن ايجاده هو ميراث الدكتاتورية الذي قتل كل نفس تفكر وتخطط وتستشرف فهذا الفقر القيادي من تلك الدكتاتورية. غير أن غزة تعطي حلا مختلفا وقابلا للتنفيذ. العودة إلى نقطة بداية ودفع الأحداث بقوة ووعي إلى تغيير الأسلوب وإرباك الصورة خاصة بتحويل الأمن الداخلي والاستقرار الجيوسياسية إلى وسيلة ضغط على المستفيدين من كل أساليب وأنظمة التهدئة محليا ولو بأسلوب الدكتاتورية. الوضع الدولي الهش اقتصاديا وسياسيا قابل للإرباك الآن وهنا. لقد عاش طويلا من وهم الأمن بإسناد الدكتاتورية وقد آن الأوان لكسر هذه القياسات التي تصب لمصلحة السلام الدولي المزيف والذي يستمر على حساب المفقرين والمهمشين ممن أمل خيرا في الربيع العربي ووجد نفسه مرة ثانية في اختيار أمرين أحلاهما مر .
هل فات الوقت ؟ على إعادة إطلاق الثورة لو كان المقاتل الغزاوي طرح السؤال لما أعد للقتال عدته وأربك العالم ليصغي اليه. ماذا قد يخسر المصريون لو عادوا للشارع أكثر مما خسروا ماذا ربح التوانسة بقسمة ثورتهم مع النظام القديم وزبانيته. من ربح من مسار تهدئة الوضع في تونس ومصر بالقوة وبالحيلة؟ هل الثورة يوم واحد ؟ أم حركة واحدة؟ غزة تقول إنها حرب مقسمة إلى معارك احداها فرض نفسك على العالم بدفع ثمن غزير من دمك يغير المسارات عبر تحمل الألم من كان يريدها بلا دم شريف فسيخسر بدم رخيص وهذا درس غزة 2014.