كشف «
داعش»، بجرائمه الثقيلة وسياساته الخفيفة، حقيقة تغافل عنها حكام العرب ومفكروهم العضويون، حينما أنشأوا ورعوا دولهم الحديثة، فهم ساوموا الإسلاميين بمواد دستورية عمومية تربط القانون الوضعي (يلحظ بالضرورة قيم العدالة الموجودة في الدين) بالشريعة، من دون ان تربطه حقاً، لئلا يطلبوا المستحيل حين يكلفون الماضي المنجز بضبط حاضر يمور بالقضايا الساخنة للأوطان وسكانها وبيئتها وعلاقاتها الدولية.
لا يقبل «داعش» المساومة حين يقيم حداً بين الماضي الساكن والحاضر الكثير السؤال، ويرمي وراء ظهره بصيغ مثل ان الدستور يستوحي الشريعة الإسلامية أو أن الشريعة هي المرجع الأساسي للدستور. إنه يطلب الشريعة كما يفهمها صافية من دنس التاريخ وإرباكات حاجات البشر، وهو يفرضها على رعايا «دولته» مخيِّراً إياهم بين الموت والخضوع. ولا يعترف بتعقيدات الاقتصاد والثقافة التي تحكم أي دولة في العالم. تكفيه بساطة ضبطه الرعايا بالقوة وتدبير عيشهم بأعمال بدائية أو بأموال من النفط المهرّب ومن مؤسسات حكومية وخاصة استولى عليها.
وكان حكام عرب مثل جمال عبدالناصر وحافظ الأسد وصدام حسين شجعوا ورعوا بناء المساجد بما يفيض عن حاجة المصلين كما موّلوا جمعيات خيرية إسلامية وأخرى دعوية غير سياسية، في محاولة لم تنجح لقطع الطريق على الإسلام السياسي بشقيه «الإخواني» والسلفي الجهادي. كان لا بد للتناقض أن يظهر علناً، فلا كلام البعثيين على ربط القومية العربية بالإسلام التاريخي ولا شعار عبدالناصر «الله أكبر والعزة للعرب» كانا قادرين على تأجيل مشكلة غموض دساتير الدولة العربية الحديثة.
وتفاقم الأمر حين قدّم آية الله الخميني نموذجاً لرجل الدين الحاكم باسم الشريعة كما يفهمها، وقد أراد الحكم صافياً لرجال الدين لا يشاركهم فيه مدنيون تم حصرهم في مواقع التنفيذ. وتطلب انفراد رجال الدين بحكم إيران قتل أو طرد يساريين وقوميين كانوا شركاء أساسيين في الثورة على الشاه، وجرى تتويج هذا التحرك بطرد المدني أبو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية الإسلامية في إيران.
عدوى الخميني أصابت رجال الدين في العالم الإسلامي الواسع، فتضخمت «الأنا» لدى هؤلاء ورأوا أنهم الأوْلى بسدّة الحكم، معبّرين عن ذلك صراحة أو مداورة، حتى وصلنا إلى عهد «داعش» وما يماثله، حيث يتصدر الحكم رجال الدين، من القضاء الشرعي في القرى والبلدات الصغيرة حتى أعلى منصب في الدولة.
ولن نشير إلى كلام كثيرين على أن رجال الدين بدعة في الإسلام الذي لم يعتمد «كنيسة» خاصة به، وإلى ملاحظة إحصائيين بأن لابسي عمامة الدين تكاثروا في العالم الإسلامي وباتوا عبئاً على المجتمع والدولة بما يتطلبون من رواتب ومكرمات من دون عمل موصوف.
وليت رجال الدين هؤلاء على كلمة واحدة، فخلافاتهم صعبة الحل بسبب «قداستها» المفترضة، وهي خطيرة حين تنسحب على الأتباع ترويعاً وقتلاً وخراب بيوت ومؤسسات.
«داعش» اليوم تصدم التكاذب في الدولة العربية الحديثة، ومصير «داعش» لا بد أن يترافق مع وضوح في خطاب الدولة الأساسي. إن الإسلام دين المسلمين لا دين دولتهم، وأن رجل الدين ليس الممثل الشرعي والوحيد للمواطنين المسلمين حتى يحتكر رئاسة دولتهم.
(الحياة اللندنية)