شهدت بلادنا في تاريخها الحديث ثلاث ثورات كبرى ساهمت كل على حدة في صياغة جزء من شخصيتنا الوطنية ،، فثورة الأعراض أو ثورة علي بن غذاهم كما تحتفظ بها الذاكرة الشعبية نقلت بلادنا من ثنائية المخزن / السيبا إلى ثنائية الدولة/ الشعب،، فقد اكتشفت قبائل وعشائر البلاد وسكان الحواضر في مواجهتها للسلطة خلال تلك
الثورة إنها شعب واحد عرقا ومذهبا وهموما ومطالب.
ثم جاءت ثورة التحرير الكبرى بعد قرابة القرن لترسي بلا رجعة مفهوم الوطن وليعلن ذلك الشعب أن له وطنا مع ما يعنيه ذلك من مقومات السيادة والاستقلال هو
تونس.. وجاءت ثورة الحرية والكرامة بعد قرابة النصف قرن لتعلن للعالم أن هًذا الشعب الذي يعيش في هذا الوطن قد اكتسب أفراده من خلال الثورة صفة المواطنة التي هي مدخل الشعوب إلى الحضارة والحرية والعدل ،،،
ونحن خلال هذه الأيام نستشرف انطلاق الحملة الانتخابية التي اصطلح على أنها ستنهي مرحلة الانتقال الديموقراطي وترجمة ذلك هو إرساء وتحقق معنى المواطنة من خلال قوامة الناس على حكامهم.
وما نلمحه من خلال تجارب أخرى تحولت فيها عملية الانتقال إلى انهيار كامل للاجتماع وتحارب أهلي عوض أن يرسى المواطنة الغى الوطن،، السبب الأول لهذا الانحراف الذي يصيب ثورات المواطنة هو غياب السقف ،، إذ يعتقد الفاعلون السياسيون أن معركة
الانتخابات هي نوع من المصارعة الحرة لا تحكمه قوانين ولا ضوابط ولا مرجعيات.
ونحن نستشرف بعد أيام هذا الامتحان الخطير يجدر بنا على مختلف مشاربنا وانتماءاتنا أن نعي وعيا تاما أن هذه الانتخابات تجري تحت سقف الوطن وليس حوله.
الوطن كما جاء تعريفه في الفصل الأول من الدستور الثاني وهو نفسه في الدستور الأول ما يعطيه علوية قاطعة: تونس دولة حرة مستقلة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. (لا يجوز تعديل هذا الفصل).
اذا الانتخابات لا تدور حول ماهية الدولة ولا دينها أو لغتها أو نظامها السياسي ولا استقلالها فكل جدل انتخابي حول هذه الثوابت هو لغو في احسن الحالات ودعوة إلى تخريب الوطن في أسوأها.
سقف الوطن يعني الاعتراف بعيدا عن التماهي الكامل أو القطيعة الحادة بكسب أجيال الحركة الوطنية كلها الذين ساهموا في التحرير والذين ساهموا في البناء،، والمراكمة على مكاسبهم وإيكال أخطائهم وصراعاتهم إلى التاريخ: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" ،، فليس التاريخ موضوعا للحملة الانتخابية فجدل التاريخ اذا اقتحم عالم السياسة حري بإيقاظ كل الشياطين.
سقف الوطن أيضا هو ما حققته تونس من صداقات خارجية ومن منهج في العلاقات الدولية يبتعد عن المحاور ويعلي من قيم الحرية والاستقلال وتقرير المصير،، منهج يستصحب ويزكي ما ركزه مؤسس الدولة الحديثة وأجيالها المتعاقبة من اعتبار الجزائر الشقيق الأكبر وفرنسا الشريك الأكبر والولايات المتحدة الحليف الأكبر وهذا ما رسخته الثورة وامتدت به شرقا وغربا فأصبحت بلادنا شريكا مميزا لأوروبا وانفتحت على أشقاء في الخليج واقتربت جدا من التجربة التركية الرائدة ،، فعلاقاتنا الخارجية ليست موضوعا للحملة الانتخابية إلا في اتجاه التنافس في تنميتها وتعزيزها.
سقف الوطن أيضا هي تلك المكاسب التي راكمها مجتمعنا خلال القرنين الماضيين منذ انطلاق حركة الإصلاح ومنها التخلص من عقدة الاقتباس ،، اقتباس كل ما هو صالح من تنظيمات ونظم وأدوات من باقي الحضارات ،،، مكانة التعليم في بلادنا ،، حياد مؤسستي القوة عن الصراع السياسي ،، مكاسب المرأة ،، حريتها ،، حقها في العمل ،، مكانتها في العائلة ،، كلها ليست محلا للصراع السياسي ،، ولا للجدل الانتخابي.
سقف الوطن هو تحرير المبادرة الاقتصادية وتشجيع الشباب على إنتاج الثروة والإعلاء من قيمتي المال والعمل ،، والقطع مع عقلية تمجيد الفقر ،، كما دور الدولة الاجتماعي تجاه الفئات المحرومة ودورها التنموي تجاه المناطق غير المحظوظة.
سقف الوطن هو شخصية التونسي المتحضرة الميالة إلى التفاوض والحلول السلمية وتجنب القطيعة والتطرف فليس مقبولا ان يحاول البعض تقسيمة على أساس الموقف من الإرهاب.
حملة انتخابية تحت سقف الوطن هي حملة في الأخير تزرع الأمل وتحارب اليأس تتواضع للشعب ولا تسرف في الوعود ،، تعامل التونسيين باعتبارهم راشدين فتصارحهم بالصعوبات وتطرح عليهم المعالجات ولو كانت عمليات جراحية معقدة .
سقف الوطن في المرحلة الخمسية القادمة هو الوحدة الوطنية والتضامن وليس الفرقة والتقسيم .