"أسيد"، طفل في حدود ربيعه الثالث، البارحة لعب الأطفال بألعابهم، وأخذوا
العيدية من آبائهم، بينما ارتسم على شفتيه قوس الحزن، واكتفى بالنظر إليهم.
ألا تلعب معهم؟ سألته. لم يجب.
بين الفينة والأخرى يقف مرحبا بالمهنئين بالعيد كالبالغين، وتتوزع عليه العيدية من أعمامه وأخواله، ويسرع بإعطائها لوالدته.
تقول والدته زوجة الأسير زاهر موسى لـ"عربي21": والده لم يشهد ولادة أي من أطفاله الأربعة، فما أن يفرج الاحتلال عنه ليعتقله مرة أخرى، فلم تجمعهم بوالدهم مائدة واحدة ولا نزهة إلا فترات محدودة، يتذكرها الأطفال باشتياق.
اليوم سيكون عيدا حقيقيا لأسيد، فمنذ فجر اليوم ارتدى أجمل ثيابه، وتعطر، وسلم رأسه لوالدته حتى تسرح شعره، فبعد خمس ساعات من السفر من مدينة نابلس إلى
سجن النقب الصحرواي سيرى والده الأسير من خلف الزجاج، ربما لن يقول أسيد الكثير، إلا أنه نظراته وأنفاسه المتلهفة لاحتضان والده ستكون بليغة.
أسرة الأسير زاهر موسى، واحدة من أسر وعائلات أكثر من 7 الآف أسير، العيد كان لهم مناسبة مؤلمة بألم الاشتياق والحرمان من فرحة كاملة بوجود الأب أو الإبن أو الزوج أو الصديق.
الصحفية لبابا، ابنة الاسير غسان ذوقان تقول لـ"عربي21": "ستة أعياد عشناها بدون الأب بسبب تكرار اعتقاله الإداري في سجون الاحتلال، مما جعل الأعياد كلها صعبة، وهذا العام سيكون الواقع اصعب كون الوالدة في الديار الحجازية فكيف للبيت أن يكون بلا والدين في هذا العيد؟".
ورغم الواقع الصعب الذي يعيشه الأسرى، إلا أنهم صنعوا في السجن عالمهم الخاص، وحولوا جدرانه الصماء إلى لوحات حياة.
وتتابع: "من خلال رسائل الوالد نرى مقدرته على إحياء العيد داخل السجن على طريقته الخاصة، فهو يتقن الحلوى بشكل كبير، وفي العام الفائت وبمناسبة زواج نجله البكر معاذ جهز حلوى من ابداعه لكل أسرى القسم الذي كان يقبع فيه وعددهم 120 معتقلا".
الاسير ذوقان يروى في مذكراته السابقة كيف يقضي الأسرى العيد، والذي يبدأ يبدأ بصلاة العيد في ساحة السجن، ثم يشكل الأسرى حلقة كبيرة في صف دائري يتناوبون في السلام على بعضهم البعض، ويتلى بيان موحد بإسم هيئة قيادة الأسرى، ثم يتناول الجميع أصنافا من الحلوى يتم تحضيرها لتلك اللحظة، وخلال ساعات النهار تنظم زيارات بين غرف الأسرى، ويكون هناك احتفال عصرا يتخلله فقرات للترويح عن النفس ونشر البهجة.
ويروي الأسير المحرر عدنان صالح لـ"عربي21"، والذي افرج عنه قبل أيام وأمضى العيد السابق في السجن: "لم اشعر بالغربة وأنا اقضي أيام عيد الفطر في الأسر، فقد اشعرني الأسرى خاصة القدامى أنهم أسرتي كلها، ومنذ الليلة التي سبقت حلول اليوم الأول من العيد تبدأ فقرات متنوعة وشيقة حولت ساعات الليل والنهار الى فعاليات وانشطة خففت كثيرا من وطئة الغياب عن العيد بين الأهل".
ويضيف: "صحيح أن دموعي ذرفت اثناء تكبيرات العيد عندما نظرت حولي وشاهدت نقاط المراقبة العسكرية تحيط بنا من كل جانب، شعرت بأن الساعات المقبلة لن يكون فيها لقاء العائلة...لكن عائلتي الأسيرة اعطتننا زخما كبيرا لم نشعر فيها بالبعد عن الأهل وعشنا أيام العيد بكل سرور".
أما الأسير المحرر عمر عطا الله، أمضى ثمانية أعياد بالسجن كانت احداها مع شقيقه الأسير عبد الناصر عيسى المحكوم بالسجن المؤبد، يصف لـ"عربي21" كيف كانت ذلك العيد المشترك خاصة ان شقيقه فقد والديه وهو بالأسر: "ذكريات الأسير تتفتح كلها في أيام العيد داخل السجن، خاصة تذكر زيارة قبور الشهداء ومن ثم لمة الأقارب، عندها كان عبد الناصر يلجأ للكتابة فيسطر كل مشاعره عن هذه اللحظات التي يسود فيها الصمت أحيانا ثم الكلمات البسيطة التي تجمع الأسرى لقرائتها ليبدأ الجميع بالتكاتف ونشر أجواء البهجة بعيدا عن ذكريات الألم".
وكانت أجمل ذكريات الأسير المحرر أمجد الشافعي الذي أمضى ثماني سنوات بالسجن، هو لقاء والدته في العيد خلال أسره.
يقول لـ"عربي21": "أجمل اللحظات كانت في قبل عامين عندما تصادف العيد يوم زيارة الأهل حيث التقيت بوالدتي بعد غياب طويل، وكانت لحظات مبهجة شعرت كأني عشت أيام العيد بالخارج".
ويضيف: "تعودنا في أيام العيد على عادات تم تحقيقها كإنجاز للحركة الأسيرة من أجل تقليل التأثير النفسي السلبي لحلول العيد على الأسرى خاصة الجدد، وكنت ابدأ العيد بالخروج لأداء صلاة العيد في الساحات والمنظر كان جميلا خاصة أن تكبيرات العيد كانت تسمع من خلف الجدران بين الأقسام وكانت تثير حفيظة السجانين لكنهم لا يستيطعون منعنا لمعرفتهم أن ذلك من شعائر العيد".
ويروي الأسير المحرر اياد خليفة، الذي أمضى سبع سنوات بالأسر تجربته بقوله: "العيد بالنسبة للأسير محطة مؤلمة لأنها تذكره بكل شيء بالخارج، الأهل والأصدقاء والأقارب، وبخاصة للأسير الذي لديه أسرة، حيث يغيب عن الزوجة والأبناء والاحفاد، وعندها تتفتح الذكريات والمواقف ويشعر الأسير بالحاجة للقائهم، فتصبح الصور وسيلة للتواصل وبرامج الاذاعات والاهداءات وسيلة اخرى".
ويضيف لـ"عربي21": "14 عيدا عشتها بعيدا عن اسرتي، لكن في العيد الأول تمكن الأسرى القدامى من مساعدتي على التغلب على صعوبة الموقف من خلال البرامج التي يتم اعدادها خصيصا للعيد من انشطة وفعاليات تساهم بشكل كبير في التغلب عليها".
"أسيد"، سيعود من زيارة والده مساء اليوم متعبا من رحلة طويلة، لكنه سينام وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مع تذكر ملامح والده، بينما كف يده يحتضن الحلوى التي أهداه إياها والده.