قوبلت الحرب على
غزة في شهري يوليو تموز وأغسطس آب بإدانة دولية لأسباب عدة لكن أحد فصولها كان الأعنف على الإطلاق قصف جوي ومدفعي
إسرائيلي في الأول من أغسطس آب أسفر عن استشهاد 150 شخصا في غضون ساعات.
وبعد مرور ستة أسابيع على بدء الحرب وبينما كان تقييم حجم الدمار لا يزال جاريا كان هناك قلق عميق بشأن ما حدث في ذلك اليوم خاصة ما اذا كانت القوة المفرطة قد استخدمت. ويقول بعض خبراء القانون إن
جريمة حرب ربما ارتكبت.
وتكشفت الأمور بينما كانت هدنة لمدة ثلاثة أيام من المفترض أن تبدأ وبعد توغل قوات إسرائيلية قبيل سريان الهدنة خرج مقاتلون من حركة المقاومة الإسلامية (
حماس) من نفق داخل غزة ونصبوا كمينا لثلاثة جنود إسرائيليين وقتلوا اثنين منهم وأسروا الثالث.
ولإنقاذ الجندي -حيا أو ميتا- وضمان ألا تستغله حماس كرهينة أعملت إسرائيل ما يعرف باسم "بروتوكول
هنيبعل" وهو أمر للوحدات العسكرية بفعل كل ما يمكنها فعله لاستعادة جندي زميل مخطوف.
وما تلا ذلك كان هجوما شرسا على منطقة بالطرف الشرقي لمدينة رفح أكبر مدن جنوب قطاع غزة ويعيش فيها نحو 200 ألف شخص. وقصفت المدفعية والدبابات الإسرائيلية أربعة أحياء لعدة ساعات -بوتيرة وصلت في أوقات إلى قذيفة كل دقيقة- فيما شنت المقاتلات غارات جوية.
وإلى جانب سقوط 150 شهيدا قال مسعفون في غزة إن نحو 200 شخص أصيبوا معظمهم مدنيون. وكان هذا أكثر الأيام دموية في الحرب التي استمرت سبعة أسابيع واستشهد فيها أكثر من 2100 فلسطيني معظمهم مدنيون كما قتل من الجانب الإسرائيلي 67 جنديا وستة مدنيين.
وفي الأسابيع التالية أثار ناشطون في مجال الحقوق المدنية وخبراء قانونيون دوليون بل وبعض ضباط الجيش الإسرائيلي مخاوف بشأن الهجوم. وكان أحد التحفظات يتساءل عما إذا كان خطف جندي إسرائيلي واحد يسوغ استخدام القوة المفرطة بلا هوادة ضد منطقة مكتظة بالسكان.
ومن المقرر أن تبدأ لجنة شكلتها مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قريبا التحقيق في انتهاكات محتملة من الطرفين أثناء الحرب وسيكون الهجوم على رفح واحدا من الأحداث العديدة التي أشار المحققون إلى أنهم سينظرون فيها.
وفتح المحامي العام للجيش الإسرائيلي -أعلى سلطة قضائية في الجيش- تحقيقا في الأحداث وقال إنه قد يفتح تحقيقا جنائيا. وقرع أساتذة دوليون في القانون ناقوس الخطر بسبب التبرير.
وقال أيان سكوبي وهو أستاذ في القانون الدولي العام بجامعة مانشستر "إذا كان هدفا عسكريا مشروعا فعلينا التساؤل عما اذا كان الدمار والقتل الذي لحق بالمدنيين متناسبا.
"والإجابة في هذه الحالة هي ’لا’ صريحة.. ليس متناسبا.. وإذا لم يكن هدفا عسكريا مشروعا فإنها بوضوح جريمة حرب لأنها استخدام غير مبرر لقوة خلفت آثارا على السكان المدنيين."
وقال الجيش الإسرائيلي إن فرق تقصي الحقائق التابعة للمحامي العام ما زالت تزاول عملها لمعرفة ماذا حدث على وجه الدقة وإنه لذلك لن يعلق على التفاصيل.
لكن بيانا للجيش قال "لا يوجد توجيه أو إجراء في الجيش الإسرائيلي يسمح بانتهاك القانون الدولي بما في ذلك قانون الصراع المسلح".
اتفق وسطاء في القاهرة مع ممثلين عن إسرائيل وحماس على أن يبدأ وقف اطلاق النار في الساعة 8:00 صباحا بالتوقيت المحلي.
ووقع الحادث قبيل دخول التهدئة حيز التنفيذ حيث أوقع الهجوم قتيلين ونجم عنه فقدان جولدين.
وزحف جنود إسرائيليون آخرون من نفس وحدة الاستطلاع الخاصة إلى المكان حيث عثروا على جثتين وأدركوا أن الجندي الثالث اللفتاننت هدار جولدين تم سحبه إلى داخل النفق.
وحصل الجنود وهم من لواء جيفاتي على إذن خاص بدخول النفق الذي يحتمل أن يكون ملغوما للبحث عن جولدين تحت الأرض.
وانتشل الجنود بعض متعلقات جولدين مما سمح لخبراء الطب الشرعي بالتوصل إلى أنه قتل في الكمين.
وقال الكولونيل عوفر وينتر قائد لواء جيفاتي إنه أبلغ بالكمين في حوالي الساعة التاسعة وبعد نحو نصف ساعة علم بأن جنديا لا يعرف مصيره.
وقال وينتر لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يوم 15 أغسطس آب "نطقت عبر الإذاعة الكلمة التي لا يريد أحد التفوه بها: هنيبعل التي تعني الخطف."
وتابع "بدأت في التخطيط لهجوم على رفح. أصدرت تعليمات لكل القوات بالتقدم والسيطرة على المنطقة حتى لا يمكن للخاطفين الحركة."
وأشارت روايات صحفيين محليين وسكان ومسعفين إلى أن قصفا مدفعيا عنيفا ونيران دبابات وغارات جوية أعقبت ذلك وأن وتيرة القصف بلغت في مرة من المرات قذيفة كل دقيقة فأطلقت ستة مدافع قذائف تفجيرية وأخرى دخانية.
وعاد عبد الحكيم لافي (57 عاما) إلى منزله بالمنطقة صباح ذلك اليوم على أمل بدء وقف اطلاق النار. وبمجرد أن عاد هو وولداه إلى المنزل بدأ القصف.
وقال لافي"ركضنا إلى خارج المنزل على طريق ترابي وبينما أنا أجري كانت القذائف تنهال.. أحدى القذائف ضربت امرأتين أمامي. رأيتهما وقد تم قصفهما وماتتا أمام عيني."
وقتل أحد ولدي لافي بينما كان يجري وراء والده.
وقال هاني حماد وهو صحفي فلسطيني يبلغ من العمر 28 عاما في رفح "المنطقة جميعها غرب المكان الذي زعم (الإسرائيليون) أن الجندي أختطف فيها تم قصفها من السماء ومن الأرض."
وفي تصريحاته للصحيفة الإسرائيلية دافع وينتر عن قرار استخدام كل هذه القوة وقال "نشأ كل شيء من تفهم بأننا نستطيع استعادة هدار جولدين حيا.
"ولهذا استخدمنا كل هذه القوة. إن أي خاطف يجب أن يعلم أنه سيدفع ثمنا.. ليس انتقاما لكنهم عبثوا مع اللواء الخاطئ."
وفي الأيام التالية تركز الاهتمام الدولي على التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار لكن سرعان ما أثيرت تساؤلات بشأن قصف رفح.
ودعا اتحاد الحقوق المدنية في إسرائيل إلى فتح تحقيق في أسباب تطبيق بروتوكول هنيبعل في منطقة حضرية مكتظة بالسكان وقال إنه "انتهاك أساسي لمبدأ التمييز في القانون الدولي."
وفي مقابلة مع رويترز فرق البريجادير جنرال روي ريفتين قائد المدفعية بالجيش الإسرائيلي بين ما حدث في رفح وواقعتين اخريين استخدمت فيهما المدفعية الثقيلة.
وقال "عندما تكون قوة معرضة للخطر أو تحت تهديد شديد نطلق نيران الانقاذ." وأضاف أن السكان في الحالتين الاخريين أُبلغوا بضرورة ترك المنطقة قبل أن تدخل القوات وقبل اطلاق نيران المدفعية.
وقال "إن بروتوكول هنيبعل الذي أعلن من أجل هدار جولدين كان مختلفا تماما.. يجب بحثه على مستويات مختلفة بالكامل."
ولم تتضح مرتبة المسؤول الذي أخد قرار تطبيق البروتوكول في تسلسل القيادة. لكن وبغض النظر عمن أعطى الضوء الأخضر يظل هناك سؤال محوري: هل كان متناسبا؟ وقال ماركو ساسولي وهو أستاذ في جامعة جنيف ومطلع على القانون الدولي إن الإجابة بالنفي فيما يبدو.
وأضاف "لا يمكنهم قصف منطقة بأكملها ببساطة إذا كانوا لا يعرفون مكان الشخص أو فقط للتأكد من أنه لا يمكن إجلاء الجندي.. من المصلحة عدم فقد أي جندي لكنها ليست مصلحة كبيرة للغاية لتبرير قتل مئات المدنيين."
وأكد خبراء آخرون على أهمية انتشال الجندي لكنهم قالوا إن هذا لا يعني تفويضا مطلقا.
وقال مايكل شميت وهو أستاذ في القانون الدولي بمركز ستوكتون التابع لكلية الحرب في البحرية الأمريكية "الأمر يتجاوز الحسابات البسيطة." وعلق شميت على المبادئ المعنية وليس ما حدث في رفح على وجه التحديد.
وتابع "تولي كل الجيوش أهمية بالغة بحماية جنودها ولهذا سبب جيد جدا. أنت تريد رفع المعنويات بين الجنود. وتريد أن يعلم الجنود أنك ستأتي لمساعدتهم إذا وقعوا في مأزق وهكذا.
"لكن إذا خطف شخص لا يعني هذا أن تتصرف دون ضابط ولا رابط."
ويشمل المنطق الإسرائيلي للرد بهذا العنف على مثل هذه الحالات أن إسرائيل دفعت ثمنا باهظا في الماضي لخطف جنودها. ففي 2006 خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط قرب غزة وقضى خمس سنوات في الأسر لدى حماس. وأطلق سراحه مقابل الإفراج عن أكثر من ألف أسير فلسطيني.
ووضع بروتوكول هنيبعل عام 1986 بعد خطف ثلاثة جنود إسرائيليين من لواء جيفاتي في لبنان. وشاهد زملاء المخطوفين السيارة تبتعد وبها رفاقهم دون أن يفتحوا النار. ويهدف البروتوكول إلى ضمان ألا يتكرر هذا.
ويقول منتقدون إن البروتوكول أسيء فهمه على أنه يوحي بأن الجندي القتيل أفضل من الجندي المخطوف.
ويحجم الجيش عن إعلان تعريف محدد للبروتوكول ويكتفي بالتأكيد على ضرورة منع وقوع جندي في الأسر. ودفع الجدال قادة في الجيش أحيانا إلى التأكيد على أن استهداف الجندي المخطوف غير مسموح على الرغم من أنه يمكن المجازفة بحياته.
وخاضت إسرائيل حروبا كثيرة منذ تأسيسها عام 1948 واتهمت مرارا بارتكاب جرائم حرب ووجهت اتهامات مماثلة لأعدائها ومن بينهم حماس.
ويكمن الاختلاف الآن في أن الفلسطينيين على وشك الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية وهي خطوة ستسمح لهم بمقاضاة إسرائيل .
وقال رئيس اللجنة التابعة لمفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة للتحقيق في حرب غزة إن المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن تستخدم أي أدلة تجمعها اللجنة في رفع دعوى قضائية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب.
ومن المقرر صدور التقرير النهائي للجنة بحلول مارس/اذار من العام المقبل. وسيكون للشهور القليلة المقبلة وما إذا كانت إسرائيل قد قررت التعاون مع التحقيق دور مهم لتحديد هل ستوجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب في نهاية المطاف؟