كتب
صالح القلاب: تأخرت
تركيا كثيرا في اكتشاف أن إيران، بتدخلها السافر في الشؤون الداخلية لسوريا، تستهدفها وتستهدف وحدتها وأمنها واستقرارها ومكانتها في هذا الإقليم والمنطقة كلها، لكن لا بأس فالمثل يقول: "أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا". والحقيقة أن إيران، التي يحكمها منذ عام 1979 معمَّمون أصحاب "تقية"، هي التي دفعت رجب طيب
أردوغان وزملاءه في نظام حزب العدالة والتنمية إلى الخروج عن صمتهم، الذي استطال أكثر من اللزوم، والرد على اتهام طهران لبلدهم بالسعي نحو فكرة العثمانية الجديدة على خلفية موقف أنقرة من الملف السوري والأزمة السورية المستفحلة.
والمعروف أن نظام حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان، بقي، بالنسبة إلى الدور الخطير جدا الذي لعبته إيران في الأزمة السورية واستمرت في لعبه حتى الآن، يغلب المصالح الاقتصادية على المواقف السياسية وبقي يضع رجلا في الفلاحة والرجل الأخرى في البور حفاظا على هذه المصالح، وذلك إلى أن طفح الكيل وإلى أن تمادى الإيرانيون في اللعب بالساحة التركية وتجاوزوا الخطوط الحمراء كلها، التي من المفترض ألا تتجاوزها طهران لو أنها بالفعل حريصة على علاقاتها "الأخوية" مع دولة "شقيقة" تربطها بها علاقات كثيرة.
وهكذا، فإنه ما كان من الممكن أن تنفجر الأوضاع بين هذين البلدين لو لم يتجاوز الإيرانيون في استهدافهم الأوضاع الداخلية التركية كل الحدود وتضطر أنقرة إلى دعوة طهران إلى الصمت «خجلا» بسبب دعمها النظام السوري، وحيث قال الناطق باسم الخارجية التركية، طانجو بيلغيج، إن تركيا غير مضطرة إلى أخذ إذن من أحد عند اتخاذ التدابير اللازمة حيال ما يهدد أمنها القومي. ولعل ما يدل على كم أن الأوضاع باتت متوترة بين هاتين الدولتين وأنها اقتربت من الانهيار الحقيقي، أن هذا المسؤول التركي وجه اتهامات مباشرة لإيران بقوله: "كنا ننتظر من دولة داعمة لنظام دمشق، المسؤول الحقيقي عن ولادة مصيبة الإرهاب المحيط بنا وتفاقمها لهذا الحد، أن تلتزم الصمت، على الأقل من باب الخجل حيال الكوارث الإنسانية في المنطقة، وفي مقدمتها كوباني".
ولعل الأكثر وضوحا على مدى تردي العلاقات بين هذين البلدين، أن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو لم يكتفِ بالطلب من إيران، في حديث لفضائية عربية، يوم الأربعاء قبل الماضي، سحب قواتها من سوريا، بل هو تعدى هذا إلى القول في أول تصريح لمسؤول تركي بكل هذه الحدة وبكل هذه الصراحة: "إن جهود الإيرانيين لتشكيل إطار شيعي (هلال شيعي) أمر سيزيد التوتر السني والشيعي والصراع الطائفي"، محذرا من أن هذا التعاطي المذهبي هو السبب في بروز التيارات المتطرفة بالمنطقة.
وبالطبع، فإن ما لا خلاف عليه هو أن ما جعل طهران تتجاوز كل الخطوط الحمراء وتتهم تركيا بـ"السعي نحو فكرة العثمانية الجديدة في المنطقة" هو الموقف المستجد المفاجئ الذي اتخذه رجب طيب إردوغان، بعد تردد طويل إزاء الأزمة السورية المتفاقمة استمر نحو أربعة أعوام، بإعلانه، والإصرار على هذا الإعلان، ضرورة إسقاط نظام بشار
الأسد "لأنه وراء استدراج الإرهاب إلى هذه المنطقة" ومطالبته بمنطقة محمية (عازلة) داخل الأراضي السورية بالقرب من الحدود التركية لنقل اللاجئين السوريين في بلاده إليها مع فرض حظر الطيران العسكري فوق هذه المنطقة.
إن هذا في حقيقة الأمر هو ما جعل إيران تبادر إلى هذا الهجوم الكاسح وتتهم تركيا بـ"السعي نحو فكرة العثمانية الجديدة في المنطقة"، كأنها هي لا تسعى، ليس الآن وإنما منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979 وقبل ذلك، إلى إحياء "أمجاد" الإمبراطورية الفارسية القديمة! كأنها لا تعتبر نفسها امتدادا للدولة الصفوية! وكأنها أيضا لم تقرن الأفعال بالأقوال وتلجأ إلى كل هذا التمدد الاستخباري والعسكري (الاحتلالي) والسياسي في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن! وكأنها لم تحاول احتلال مملكة البحرين! وكأنها لا تفعل كل هذا الذي تفعله في هذه المنطقة كلها ولا تتدخل كل هذا التدخل في الشؤون الداخلية لمعظم الدول العربية!
إنه ما كان من الممكن أن يتجاوز رجب طيب أردوغان كل الحواجز وأن يتخلى عن تردده السابق، الذي استمر نحو أربعة أعوام، ويعلن تصميمه على إسقاط نظام بشار الأسد - لو أنه لم يتأكد وبالأدلة القاطعة والحاسمة أن إيران تمادت كثيرا في اللعب بالساحة التركية وفي التدخل في شؤون هذا البلد الداخلية، وأنها في حقيقة الأمر قد تمكنت من تحويل سوريا هذا النظام إلى رأس جسر متقدم لها في هذه المنطقة؛ على غرار رأس الجسر الإيراني المتقدم الذي أقامه "حزب الله" في لبنان، ورأس الجسر المتقدم الذي أقامته "حماسط في غزة، ورأس الجسر المتقدم الذي أقامه "الحوثيون" في اليمن.. ورأس الجسر المتقدم الذي كان أقامه عمر حسن البشير على شواطئ البحر الأحمر السودانية.
لقد أدرك رجب طيب أردوغان بعد نحو أربعة أعوام من المماطلة والتردد أن عدم إسقاط نظام بشار الأسد سيجعل إيران، بتطلعاتها الصفوية وبأحلامها الفارسية وبإصرارها على التمدد في كل الاتجاهات بعد سيطرتها على العراق وسيطرتها على سوريا وسيطرتها أيضا على لبنان وعلى اليمن، إمبراطورية تحادد بلده من الجنوب، والمؤكد أنه يعرف أن دولة الولي الفقيه قد حققت اختراقا كبيرا في تركيا من خلال احتوائها غالبية العلويين الأتراك "العرب"، وأنها هي التي حركت هؤلاء لإثارة أحداث الشغب السابقة واللاحقة في إسطنبول، وأنها هي التي قامت بتجنيد نحو أربعة آلاف من شبان علويي تركيا "العرب" للقتال ضد الثورة السورية دفاعا عن نظام بشار الأسد، وأن هؤلاء وغيرهم سيتحولون إلى ثورة مضادة داخل الدولة التركية، وكل هذا والمفترض أن المعروف أن الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، قد تمكن من إحداث اختراقات كبيرة ومؤثرة في صفوف مقاتلي حزب العمال الكردستاني - التركي من خلال ما يسمى "الاتحاد الوطني الديمقراطي" الكردي الذي تم تنشيطه مع بدايات انفجار الأزمة السورية بإشراف مخابرات بشار الأسد التي باتت تعتبر تابعة للمخابرات الإيرانية وجناحا من أجنحتها العاملة في هذه المنطقة.
ولهذا، فإن تركيا، خلافا لما يريده الأميركيون، بادرت إلى رفض تسليح أكراد مدينة كوباني الذين هم أكراد أتراك كلهم ومن دون أي استثناء والذين هم في حقيقة الأمر من مقاتلي حزب العمال الكردستاني - التركي الـ(P.K.K) الذي جدد علاقته بالمخابرات السورية ومن ثم بالمخابرات الإيرانية، ولذلك فإن مع رجب طيب إردوغان كل الحق عندما يرفض تسليح مقاتلي الحزب الديمقراطي الآنف الذكر، وذلك لأنه يعرف أن إيران تعتبر هؤلاء رأس جسرها في جنوب شرقي تركيا، على غرار اعتبار العلويين رأس جسرها في الجنوب الغربي - إنْ داخل الأراضي التركية في أضنة والإسكندرون وإنطاكيا، وإنْ داخل الأراضي السورية في جبال النصيريين وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط في اللاذقية وبانياس وطرطوس.
ولذلك واستنادا إلى هذا كله، فإن مسألة إسقاط نظام بشار الأسد أصبحت بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مسألة دفاع عن النفس ومسألة دفاع عن تركيا، التي غدت مستهدفة بالتمدد الإيراني الصفوي بتطلعات فارسية، وهذا يعني أن معادلات الأزمة السورية قد أصبحت مختلفة عن معادلات بداياتها، وأن الصراع في هذه المنطقة بات يتخذ طابعا جديدا ومن ثم فإنه لم يعد بإمكان الأتراك الاستمرار في هذه اللعبة بالطريقة السابقة.
(الشرق الأوسط)