تجهّز
تونس نفسها لثاني انتخابات حرة ومفتوحة منذ ثورتها وإطاحة دكتاتورها في يناير/كانون الثاني 2011.
وفي الوقت الذي انحدرت فيه باقي دول الربيع العربي سواء نحو الفوضى والنزاع الأهلي-بوجهيه العرقي والطائفي-أو الارتماء مجددا في أحضان الانقلابات العسكرية القاتمة والوحشية، يبدو أن تونس نجحت في الوقوف في وجه العواصف القوية التي تهزّ ما حولها. وتستعد تونس حاليا لاختيار برلمان تمثيلي الأحد، ورئيس لها في 23 نوفمبر/تشرين الثاني. والسؤال الآن هو كيف أمكن لتونس الصغيرة أن تتجنب المصير المظلم لمصر وليبيا وسوريا والبحرين واليمن، لتقف وحدها اليوم استثناء وسط الانهيار الشامل للربيع العربي؟
وفعلا، ورغم أن البلد فشلت في تحقيق تقدم كبير على الجبهة الاقتصادية، لاسيما مع مشاكلها البنيوية العميقة وانتشار الحركات الاحتجاجية مثل الإضرابات والاعتصامات، كانت إنجازاتها السياسية مثيرة للإعجاب. فقد توصل المجلس التأسيسي إلى تبني دستور ديمقراطي حديث بأغلبية 93 بالمائة من أعضائه الذين تتنازعهم آفاق إيديولوجية وفكرية وسياسية مختلفة.
واستمر العمل سنتين للتوصل إلى ما يعدّ أكثر دستور تقدمي في المنطقة العربية مرسّخا حقوق المرأة وحرية التعبير والمعتقد والضمير والعبادة ومانعا التحريض على العنف ومجرما التكفير. وإضافة إلى الدستور، توصلت تونس إلى إرساء المؤسسات الدستورية والهيئات القانونية التي تضمن انتخابات حرة ونزيهة، كما أنشأت هيئة انتخابية عليا ومستقلة مكلفة مراقبة الاقتراع، زيادة على المصادقة على قانون الانتخابات الجديد الذي سيحكم عمليات الاقتراع في الانتخابات التشريعية والرئاسية.
لكن تونس لم تغادر مرحلة الخطر بعد، فمسارها الديمقراطي مازال تحت تهديد ضغوط عارمة لأنّ الوضع الجيو-سياسي لا يخدمها. فالجارة الشقيقة الجنوبية ليبيا تعاني من انهيار مؤسسات الدولة وانتشار السلاح والفوضى المتنامية. وأبعد منها بقليل، تقع مالي بين كماشة الإرهاب كما أن مجالها العربي الأوسع يعاني من تنامي ظواهر عدم الاستقرار. والأكثر تهديدا هو وجود تكتّل خليجي مصمم على إبادة ما تبقى من الربيع العربي عبر "تصنيع" الفوضى وعدم الأمن والدعاية الإعلامية الكاذبة والألاعيب السياسوية القذرة، باستخدام قوة البترودولار.
ورغم أن تونس محظوظة بكونها بعيدة عن هذه المنطقة التي أصبحت مركز مؤامرات
الثورة المضادة، لكنها ليست بأمان وحصانة تامة إزاء تأثيرات ذلك المدمرة.
لربما كانت الدعامة الأقوى لتونس في هذا الخضم هو مجتمعها المتماسك. فالمجتمع التونسي على الأرجح هو أكثر مجتمع متجانس في المنطقة العربية بانعدام الانقسامات الطائفية والعرقية والدينية والعشائرية. كما أن التنافس السياسي والخلافات الإيديولوجية ظلت في إطارها ولم تتحول إلى انقسامات اجتماعية أفقية مثلما هي في العراق وسوريا ولبنان.
واعتمادا على مسار تحديث تعود جذوره إلى القرن التاسع عشر، أصبحت غالبية التونسيين تعيش في المناطق الحضرية ومتعلمة بكيفية جيدة نسبيا مع وجود طبقة وسطى ومجتمع مدني فعالين .
وإذا تمّ توجيه التحية للجيشين المصري والتونسي باعتبارهما حاميي الثورة بعد إطاحة مبارك وبن علي، اختلف دورهما جذريا. ففي القوت الذي استولى الأول على السلطة وأطاح الرئيس المنتخب محمد مرسي وأصبح يحكم مصر بقبضة حديدية، عاد الثاني تدريجيا إلى ثكناته في هدوء. ولم يكن ذلك محض مصادفة، ولكن تعود جذوره لنظرتين مختلفتين راديكاليا للدور الذي ينبغي للقوات المسلحة أن تلغبه في البلدين خلال تاريخهما الحديث.
فالحبيب بورقيبة الذي رأس تونس مباشرة بعد الاستقلال، كان يتوجس من
الجيش ومحتاطا من أن تقوم القوات المسلحة بانقلابات على غرار ذلك الذي نفذه جمال عبد الناصر في مصر أو حزبا البعث في سوريا والعراق. لذلك فقد اقتصر الجيش التونسي على النشاط داخل ثكناته، ولا تقوم مهمته الرئيسة سوى على حماية حدود البلاد والنأي بنفسه عن السياسة.
وكان حكم بورقيبة الشمولي يقوم على مزيج من الشرعية الليبيرالية الوطنية والكاريزما الشخصية وجرعات من القمع السياسي. فيما كان الاعتماد على الأجهزة البوليسية أعمق في ظل حكم خلفه بن علي والذي حوّل تونس إلى دولة بوليسية افتراضية.
مع ذلك بقيت السياسة في تونس حكرا على السياسيين وخالية من تدخل العسكر ومن دون ظلالهم المنتشرة في كل مكان والتهديدات الجدية التي قد تقف حجر عثرة أمام رفضهم أي قرارات، كانت العملية السياسية قادرة على أن تنبثق بعفوية وسط ظلال الشك التي كانت تخيم على المرحلة التي أعقبت الثورة.
وفي الوقت الذي قامت سياسة الإخوان المسلمين في مصر على مقاربة "المنتصر يفوز بكل شيء" بعد الفوز بأغلبية الأصوات في الانتخابات التشريعية والرئاسية، رغبت حركة النهضة في تشكيل ائتلافات سياسية واسعة مع أحزاب علمانية أخرى. وبعد فوزها بانتخابات المجلس التأسيسي عام 2011، دعت الحركة إلى حكومة وحدة وطنية وتقاسمت الحكم مع حزبين علمانيين، أحدهما يساري والآخر ليبيرالي، هما المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، لتتشكل ما تعرف بالترويكا.
وجنّب هذا الالتزام ببناء التوافقات تونس من توترات الاستقطاب الإيديولوجي الذي لوّث الحياة السياسية المصرية مما أضعف المعسكر الثوري فاسحا المجال بالتالي لعودة العسكر القديم.
وعندما دخلت البلاد أزمة عميقة بعد نجاح الانقلاب العسكري الدموي في مصر، والذي تصادف مع اغتيال ثان طال أحد قياديي المعارضة في تونس، ارتأت النهضة تسليم السلطة إلى حكومة كفاءات ربما ستكون قادرة على إدارة البلاد وهي تسعى إلى إجراء انتخاباتها مما أدى إلى عدم ارتياح في صفوف قواعدها.
وقد كان من شأن هذه الواقعية والوعي الدقيق بتعقيدات المرحلة الانتقالية والمخاطر التي يفرضها وضع المنطقة المعادي، أن جنّب البلاد مزيدا من الدم والتوتر، كما ساعد في الحفاظ على ديمقراطيتها الوليدة وهي تقطع طريقها.
ويبدو أن حركة النهضة تعلمت عدة دروس من تعرضها للقمع على مدى عقدين من الزمان وأيضا من فشل تجربتين ديمقراطيتين في كل من الجارتين الجزائر ومصر. ورغم سنوات منفاهم في العواصم الأوروبية، يبدو أن زعماءها اكتشفوا تعقيدات العمل السياسي بأساليب التفاوض الشاقة والتنازلات الضرورية وتغيير التحالفات والائتلافات.
كما يبدو أنهم تعلموا فن التنازل والتوافق الذي يمكن ان يكون العلامة الفارقة للأنموذج السياسي التونسي الوليد. والأحداث التي تشهدها تونس مهمة جدا ليس فقط لمواطنيها الأحد عشر مليونا، ولكن للمنطقة الأكبر. فولادة أول ديمقراطية عربية كاملة الأهلية يمكن أن توفّر مثالا للأمل في خضم أصوات محمومة من اليأس والعدمية حول معاني الولاء لجى العرب من الدكتاتوريين العسكريين ورجال الدين الفاسدين إلى المناضلين الفوضويين .
في هذا الخضم تفتح تونس طريقا ثالثا مختلفا عن التبعية العمياء لأنظمة الحكم الشمولية وعن حمق وجنون التطرف العنيف. ومثلما أنارت للعرب طريق الخروج من سجون الدكتاتورية قبل ثلاث سنوات، ها هي تونس اليوم، تثبت أنه على أنقاض النظام القديم، يمكن أن بناء ديمقراطية صلبة بنفس الصعوبة التي قد تكون ميزت الطريق التي قطعها أثناء السعي لذلك.
(سي أن أن - 23\10\2014)