في الحروب القديمة، كان لكل جيش
راية يحملها مقاتل شجاع، يتم انتقاءه بعناية. مهمته الوحيدة هي الإبقاء عليها مرفوعة مرفرفة على الدوام. وكانوا يكلفونه بالصمود حتى اللحظة الأخيرة مهما كانت الصعاب أو اشتد الكر والفر أو حمي وطيس المعركة . وأن يكون آخر المتراجعين أو المنسحبين، وأن يحاول إن جرح أو ضرب في مقتل، أن يرفع الراية حتى آخر نفس .
وذلك لأن الراية هي دليل المقاتلين، ومؤشر سير المعركة، من نصر أو هزيمة أو سقوط . لقد كان لها ذات الدور الذي تقوم به اليوم البيانات العسكرية وأجهزة الإعلام و إدارات الشؤون المعنوية.
والقدس بهذا المعنى البسيط، هي رايتنا كعرب ومسلمين ومسيحيين، وسقوطها يختلف عن سقوط غيرها من المدن العربية، كحيفا وغزة ورام الله وبغداد؛ فسقوطها يعنى سقوط حامل الراية، الذي مات أو استشهد أو انكسر أو جبن عن أن يحمل رايته ورمز أمته .
فالحروب الصليبية التى دارت معاركها من 1096 حتى 1291، شاهدت سقوط عديد من المدن والإمارات العربية والإسلامية في يد الغزاة، ولكن كان لسقوط
القدس عام 1099 دويا أليما، وكأنها عاصمة الأمة.
وكذلك شاهدت نفس هذه الفترة انتصارات ومعارك تحرير عربية إسلامية كثيرة فى عهود عماد الدين زنكى، ونور الدين محمود، والناصر داوود الأيوبي، والظاهر بيبرس، و المنصور قلاوون . ولكن كان لتحرير القدس على يد جيش صلاح الدين عام 1187 وقعا مختلفا ودلالة تاريخية فارقة .
وعندما مات صلاح الدين، كان لا يزال هناك عددا من الإمارات الصليبية في أراضينا ولكن معركة حطين كانت هي الضربة القاصمة التي توالى بعدها انهيار المشروع الصليبي بأكمله .
لماذا للقدس هذه المنزلة ؟
أولا ــ لما لها من قدسية خاصة منذ أسرى الله سبحانه و تعالى بالرسول عليه الصلاة والسلام إلى المسجد الأقصى . وهو الرسول الذي مثلت رسالته، نقطة تحول كبيرة في تاريخ هذه المنطقة، فبها أسلمنا وتعربنا، وخرجت إلى الحياة أمتنا العربية الواحدة، الأمة الوليدة الجديدة، التي كانت لقرون طويلة، واحدة من القوى الكبرى في العالم.
وثانيا ــ لأن القدس هى البوابة التي كان المعتدون على مر التاريخ سواء من "الصليبيين" أو الصهاينة، يحاولون الولوج منها إلى أوطاننا، بذرائع دينية كاذبة .
فهي أرض المسيح التى يجب تحريرها من العرب الكفرة، وفقا لخطبة البابا أربان الثاني في جنوب فرنسا عام 1095 م .
وهي الأرض المقدسة لليهود، التي ذكرت في التوراة أكثر من 600 مرة، وفيها هيكلهم المزعوم، والتي احتلها الغزاة العرب المسلمون على امتداد 14 قرنا، حسب فتاوى الحاخامات والقادة الصهاينة المعاصرين .
فجميع الغزاة، استخدموا القدس لاختلاق مشروعية دينية مقدسة لغزواتهم، علهم ينجحون بذلك في انتزاع مشروعية قومية، مشروعية لاغتصاب أوطاننا والبقاء فيها .
وكان رد أسلافنا على مر التاريخ، هو القتال لطرد الغزاة وتحرير الأرض المغتصبة، انطلاقا من الحقيقة التاريخية الموضوعية، وهي أن هذه أرضنا نحن، التي تعربت وتعربنا معها منذ الفتح الإسلامي، وعشنا فيها واستقرينا عليها قرونا طويلة، و لم نغادرها أبدا منذ ذلك الحين، فاختصصنا بها دونا عن غيرنا من الشعوب والأمم .
أما المقدسات الدينية فإنها لا تعطى وحدها، أهل هذا الدين أو ذاك، أي حق في امتلاك الأرض التي تحتضن مقدساتهم . فالأمم ليست مقدسات فقط، وإنما هي أيضا شعب وأرض وتاريخ طويل ولغة واحدة وحضارة متميزة ولا نقول ممتازة .
وهكذا كانت القدس على الدوام رمزا لنا جميعا؛ رمزا للإسلام وللعروبة ولأرض الرسالات السماوية، وللوحدة الوطنية لمسلميها ومسيحييها، إنها رمزا لهويتنا الجامعة الشاملة، وهي هوية صادقة، و حقيقة موضوعية ثابتة تاريخيا .
ولكنها كانت في ذات الوقت رمزا كاذبا ومختلقا ومسروقا للصهاينة ومن قبلهم الغزاة الأوروبيين المتذرعين زوراً بحماية الصليب.
• وبالتالي فإن لحماية القدس من السقوط، الأولوية دائما، لأن حمايتها تمثل حائط صد ضد تحصين الاغتصاب الصهيوني بمشروعية دينية زائفة .
• ولأن الدفاع عنها هو دفاع عن اختصاصنا التاريخي بكل أرض فلسطين التاريخية.
• ولأنها قضية لا يملك أحد في السلطة الفلسطينية أو غيرها أن يدعي اختصاصه وانفراده بها، فهي قضية كل العرب وا
لمسلمين، وليست قضية فلسطينية فقط، وهو ما يستدعي من ناحية أخرى إخراجها من أجندة المفاوضات العبثية بين السلطة والصهاينة .
• ولأنها قادرة برمزيتها المقدسة، على تعبئة جماهيرنا في كل مكان للاشتباك مع العدو الصهيوني، فهي البوابة الأرحب لهذه المهمة .
• وأخيرا وليس آخرا، لأنها قضية ملحة وعاجلة، حيث يقوم العدو الآن بتصعيد وتكثيف العدوان عليها، لهضمها وابتلاعها في أقرب وقت .
التهويد قديم :
ومسلسل اغتصاب القدس وتهويدها قديم، بدأ منذ بدايات الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922، عندما تركزت الهجرات اليهودية الوافدة، غرب المدينة القديمة، لتكون نواة لما يسمونه الآن بالقدس الغربية، التي اغتصبوها عام 1948 ضمن ما تم اغتصابه من فلسطين، وقيام الصهاينة بطرد ما يقرب من 60 ألف عربي منها . ثم جاء احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967. وما تلاه عام 1980 من ضم القدس الشرقية إلى الغربية تحت اسم القدس الموحدة عاصمة لدولة الكيان . لتتابع الاعتداءات ببناء أحزمة من المستوطنات لحصار المدينة القديمة من الشرق لعزلها عن محيطها العربي، والحيلولة دون امتدادها وتوسعها شرقا، لوأد أي مشروع لاسترداد القدس الشرقية في أي مفاوضات مستقبلية . وذلك مع زرع أكبر عدد من المستوطنين الصهاينة في القدس الشرقية ليبلغ عددهم فيها الآن 200 ألف مستوطن ، ويبلغ عددهم في القدس الموحدة ، شرقية وغربية 500 ألف يهودي .
ولنتذكر معا أن جملة عدد اليهود في كل فلسطين عام 1917 لم يتعدَ 60 ألف، وهو ما جعلهم يكتفون بطلب حق إقامة وطن قومي لهم هناك، ولكن عام 1947 عندما بلغ عددهم 650 ألف، كان عندهم الشجاعة والجرأة أن يطالبوا بدولة وليس مجرد وطن، وهو ما أخذوه بالفعل من الأمم المتحدة فيما سمى بقرار التقسيم .
و لكن الآن بلغ عددهم كما أسلفنا نصف مليون يهودي في القدس وحدها. فلنا أن نتصور حجم المشكلة وعمق التهويد الذي تم هناك. والذي يستكملونه على قدم وساق بالتربص بالمسجد الأقصى وإزالة منازل أهالينا المقدسيين وغيرها من الإجراءات اليومية التي كادت أن تنجح في التهويد الكامل لمدينتنا المقدسة، وآخرها مخطط التقسيم الزماني للمسجد الأقصى.
والراية على وشك السقوط :
وطوال هذه العقود، لم تتوقف مقاومتنا للمشروع الصهيوني عامة، ولتهويد القدس على وجه الخصوص ، فمنذ ثورة البراق في أغسطس 1929 وإعدام قادتها الثلاثة الشهداء عطا الوزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي في سجن عكا في 17 يونيو 1930، مرورا بانتفاضة سبتمبر 2000، وما تلاها من
صمود ومقاومة بطولية، يمارسها شعبنا الأعزل هناك يوميا، في مواجهة زبانية الصهاينة وآلاتهم العسكرية، والتواطؤ الدولي والصمت العربي.
إن أبطالنا المقدسيين المرابطين والمرابطات، يلتزمون بوصايا الأجداد، فهم لا يزالون يحملوا الراية، ويحفظونها من السقوط بما تبقى لهم من طاقة . ولكن جروحهم أًثخنت، وهم في انتظار مدد يشد من أزرهم، ويحمي الراية التي كادت أن تسقط، فهل من مجيب ؟