في يوم الصمت الانتخابي ينتظر
التونسيون بقلوب واجفة بين الأمل في العبور بثورتهم إلى بر الأمان الديمقراطي أو العودة إلى سلطة النظام القديم الذي جربوا سياطه في جلودهم لزمن طويل.
يدخلون الانتخابات الرئاسية بإحساس من تعرض إلى خديعة في الانتخابات التشريعية وأمامه فرصة وحيدة لرد الفعل الغاضب، ولكن تسمع لدى شرائح واسعة من الناس خاصة ممن يمكن تصنيفهم في الطبقة الوسطى من موظفي الإدارة، وجلاس مقاهي الآحاد المترفة، استعدادا للسقوط قبل الضربة لأن كل شيء في تقديرهم قد تم ترتيبه، وأن العناد جهد مفرغ من الجدوى بين الخوف والرجاء وبين الاستسلام والعناد، تبرز للملاحظ جملة من النقاط تستحق أن يسلط عليها الضوء.
حملة المرزوقي التطوعية حلقة من حلقات الثورة
ظاهرة المنصف المرزوقي كلام يتردد في أوساط واسعة عن إقبال شعبي لم يتوقعه أحد على التطوع في حملة الدكتور منصف المرزوقي الانتخابية وقد عبر عن ذلك شعار بسيط وغاية في الدلالة وهو شعار جيانك بلاش فلوس.
فقد تقدمت فئات عمرية مختلفة للحملة، وتبرعت بما لديها ولم تنتظر تمويلا ولا دعما اللَّهم المطبوعات المتوافقة مع الإشهار الرسمي، وظهر فنانو الراب في المهرجانات الانتخابية وتكلم شعراء كثر، ولكن الخطاب اللافت في كل المواقع المساندة هو أن المرزوقي يمثل الأمل الأخير في بقاء الثورة حية تتنفس وأنه بتملكه جزءا من السلطة التنفيذية سيمكن حماية الثورة والمنتصرين لها.
هذا الربط يجعل الحملة التطوعية جزءا من الحراك الثوري الذي يتخذ له مظاهر كثيرة بحسب اللحظة التي يعيشها المنتصرون للثورة. إنها امتداد لكل أشكال الانتفاض على الأجهزة الفاسدة منذ 17 ديسمبر 2010 فهي هبة في سياق متصل بما قبله ومعارض بشكل سلمي وحضاري للقمع ورغبة القمع وحيله التي خدعت الناس في الانتخابات التشريعية قبل شهر.
الهبة ناتجة في جزء كبير منها عن الإحساس بالخديعة التي تعرض لها جمهور الناخبين في التشريعية فقد تقدم الناس للاختيار بين أحزاب مختلفة، وقائمات متنوعة، لكنهم فوجئوا بأوامر انتخابية سرية جمعت كل فلول الحزب الحاكم المنحل لمصلحة وريثه الذي يكسوه وجها جديدا، فكأن التجمع الذّي حاربوه قد لبس لباسا تنكريا وعاد للمسرح بوجه جديد، لكن جوهره الفاسد القائم على المكر والخديعة لم يتغير، فهب الناس متعلقين بأمل أخير، جسده الرئيس المترشح الذي تعرض لحملة تشويه غير مسبوقة في التاريخ من قبل وسائل إعلام النظام التي يعرفها الناس وخبروا كيدها وعبثها بالمسار الثوري وتحويلها الثورة إلى جريمة.
كيف سيتم التصرف في هذه الهبة وهل ستحتضنها قيادة سياسية جديدة متطوعة من أجل استكمال الحراك الثوري أم ستقع في الإهمال والنسيان وتنحل وتتلاشى كغثاء السيل إذا لم يفز مرشحها الذي تعلقت به كأمل أخير؟ هذا سؤال برسم المستقبل يتوقف عليه لا مصير المرزوقي الشخصي والسياسي فقط بل مصير الثورة برمتها.
حماس القاعدة النهضوية للحملة فرز ثوري
الوجه الثاني من الاستعدادات للانتخابات الرئاسية هو تطوع قواعد حزب
النهضة وبحماس مخالف لكل الموقف الرسمي المحايد المعلن للحزب. فقد حملت قواعد الحزب الحملة الدعائية على كاهلها بالمال والرجال المتطوعين الذين استفادوا من خبرتهم ووظفوها لصالح المرشح المرزوقي. وهو أمر ذو دلالة في قراءة تموقع الحزب وأنصاره.
ففي الوقت الذي اختارت القيادة موقف الحياد وحررت إرادة منتسبيها في الاختيار مبررة ذلك بما تتعرض له من ضغوط داخلية وخارجية عليها، فإنها فيما يبدو عجزت عن احتواء إرادة الأفراد داخلها في دعم المرشح الذي يحمل لها أمل حماية من مجزرة ثانية، قد تكون فيها نهايتها السياسية ضمن ما يوصف بالخطة الكونية لاستئصال الإسلام السياسي الذي تنتمي إليه، خاصة مع انكسار الإخوان المسلمين في مصر بانقلاب عسكري لم يبق منهم قدرة على الفعل في المدى المنظور.
حماس قواعد النهضة يصفه البعض بالانحياز الطاهر للثورة، ويتوقع أن يكون له تأثير على الحزب وعلى توجهاته، فإما أن يقود إلى تجذُّر خط ثوري ستقوده القواعد المنحازة للتغير وتهيئ به المؤتمر القادم للحزب وتقصي القيادة الحالة ذات التوجه الإصلاحي الموصوف بالمهادن، أو ينكسر المدُّ لتتحول الحركة إلى حزب صغير إصلاحي مشابه لحركة محفوظ نحناح في الجزائر، وتنتهي كقوة ذات وزن ولا يحسب لها أي حساب في المستقبل السياسي للبلاد.
هو حماس مشابه للحماس العفوي المتطوع والشعبي. حماس للثورة لكن يحركه الخوف من مغامرة الاشتراك في الحكم من موقع ضعيف مع نداء تونس، حماس تحسن قيادة الحركة تهدئته واحتواءه كما فعلت في مفاصل كثيرة منذ بدء الثورة بتوجهات قواعدها الشعبية المفقرة. وهو أمر متوقع أيضا بنفس القدر بالنظر إلى غياب فكر سياسي ثوري لا يحمله أي شق سياسي داخل الحزب.
الأمل الفقير في مواجهة المال الفاسد
عند صدور هذا المقال ستكون النتائج قد بدأت في الظهور، وستكون الصورة قد وضحت للآمل وللمحبط. فإما أن ينتصر المد الثوري العفوي بعفويته ذاتها، وإما أن يفسد المال السياسي اللعبة ويزيف الانتخابات وقد برع في ذلك.
لقد كان من أبرز نتائج الانتخابات التشريعية أن أخرجت من المشهد كثيرا من الفاعلين السياسيين الذين توهموا لهم وزنا ذا بال فكشف ميزان الصندوق حجمهم الحقيقي، وسيكون من مزية الرئاسية أيضا أن ستنزل إلى حضيض السياسة وجوها تاريخية للمعارضة السابقة، وتدخلهم في النسيان لأنهم لم يتعظوا من درس التشريعية ويلتفوا حول مرشح وحيد يحمل آخر الآمال في إنقاذ الثورة.
إن الذين سقطوا في التشريعية هم من تسقطهم الثورات عادة، والذين سيسقطون في الرئاسية لن تقوم لهم قيامة في المستقبل. لكن هل سيتحول المد الثوري الفقير الذي يتجلى الآن في حملة المتطوعين الفقراء وقواعد حزب النهضة المفقرة المنحازة للمرزوقي برغم تردد قياداتها إلى نخب جديدة وقاعدة إعادة إطلاق الثورة ثانية؟ هذا سؤال في الأمل أكثر مما هو في التوقع المدروس فإذا قلنا بأن النخب الجديدة بصدد التشكل في حملة المرزوقي وإنها تكتشف إمكانياتها في الميدان فلا بد من العطف على أنه مازال بها الكثير من العفوية والحماس والرغبة الجامحة في القيادة واثبات الذات دون خط سير سياسي، ونتذكر بأسف أن التأطير السياسي كان ولا يزال نقطة ضعف الشارع الثوري في تونس منذ البداية.
تأطير هذا الحماس في كيان سياسي من الزهاد لا من منتظري غنائم الحملة سيكون خطوة أخرى في الثورة وبها ومعها، لكن هذا يفترض أولا وجود قيادات زاهدة في المغانم لتبين للناس أن المغنم الثوري ليس منصبا في السلطة، بقدر ما هو الحرية المهددة من المال الفاسد الذي أفسد على الناس أمرهم وجعلهم في وضع الذي يحمد السلامة من مغانم الغزو.