كتب
بكر صدقي: حقاً لا أعرف ما الذي يمكن أن يفعله الطرفان المتفاوضان حول الملف
النووي الإيراني، خلال الأشهر السبعة القادمة، ليتوصلا إلى اتفاق. فالخلاف بين الجانبين حول عدد أجهزة الطرد المركزي المسموح بها، وكذا حول الجدولة الزمنية لرفع العقوبات عن إيران، بات معروفاً للقاصي والداني. وفي حين أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بوضوح عدم ربط المفاوضات النووية بالوضع الإقليمي المضطرب، تعمل إيران بكل زخم على تمتين تمددها الإقليمي لرفع سقف شروطها في المفاوضات النووية.
بحيث يبدو أن التمديد الذي فرضته إيران على مفاوضيها الغربيين مهلةً لهم للتراجع عن سقف مطالبهم منها، وليس العكس. بكلمات أخرى تبدو إيران هي الطرف القوي الذي يسعى لفرض شروطه على الطرف الضعيف (5+1). وما المهلة الإضافية إلا ليقتنع الطرف الغربي بالتراجع عن شروطه والاقتراب من الشروط الإيرانية. ووسيلة إيران لهذا «الإقناع» هي كسب مزيد من النقاط في صراعها الاقليمي مع جوارها العربي، بالنظر إلى المهلة السابقة التي استثمرتها بالطريقة نفسها: تعطيل الاستحقاق الرئاسي في لبنان والتمديد لمجلسه النيابي، والاستيلاء على صنعاء، وأخيراً الهدية الصاروخية لحزب الله الإيراني في لبنان عشية انتهاء المفاوضات في فيينا. ويمكن القول إن صاروخ «الفاتح» هذا «المخصص لإسرائيل» كما قيل، كان وسيلة إقناع ناجعة للحصول على سبعة أشهر إضافية تستثمرها إيران للحصول على مزيد من وسائل الإقناع.
بالمقابل، ماذا لدى الطرف الآخر؟ ولنقل اختصاراً ماذا لدى الإدارة الأمريكية من وسائل ضغط على إيران لإرغامها على القبول بشروط التسوية النووية؟
إذا قسنا على الفترة السابقة أيضاً، لرأينا أن الأمر الوحيد الذي فرضته واشنطن على طهران هو إقالة نوري المالكي واستبدال حيدر العبادي به. ورئيس الوزراء العراقي الجديد ليس شيعياً فقط كسلفه، بل أيضاً من حزب الدعوة إيراني الهوى. وعلى أي حال تم هذا الاستبدال لغرض مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية الذي استولى على الموصل. أي لمواجهة عدو خطير لإيران. وفي سوريا، حرصت الإدارة الأمريكية على طمأنة نظام دمشق الكيماوي بأن غارات التحالف داخل الأراضي السورية لن تستهدفه.
بل أكثر من ذلك، وصلت الإشارة إلى الجزار السوري بأنه حر في استهداف منطقة عمليات طيران التحالف بطيرانه وبراميله، فكان هناك نوع من تقسيم العمل بين الجانبين طوال الفترة الماضية منذ بداية غارات التحالف: طيران التحالف يضرب مواقع «داعش» ليلاً، وطيران النظام يقصف المدنيين، في المناطق ذاتها، نهاراً.
وهكذا كانت أولى الثمار الإيرانية من تمديد المفاوضات النووية، قصف مدينة الرقة بطيران النظام الكيماوي الذي أدى إلى مقتل نحو مئة مدني، بينهم عائلات بكاملها، قبل مضي أربع وعشرين ساعة على انتهاء مفاوضات فيينا بالتمديد.
أما باراك أوباما فقد بدأ بـ»استثمار» فترة التمديد بإقالة وزير دفاعه تشاك هيغل، هديةً لولي الفقيه واسترضاءً له. فكل التحليلات حول «استقالة» هيغل تشير إلى أن السبب هو المذكرة من صفحتين التي وجهها إلى مستشارة الأمن القومي سوزان رايس، قبل أسابيع، يعبر فيها عن اعتراضه على استراتيجية أوباما في الحرب على داعش في سوريا. وعلى هذه الخلفية سربت محطة سي إن إن التلفزيونية خبرها الشهير حول «إعادة النظر» في سياسة الإدارة بشأن سوريا. ثم جاء النفي الصريح لإعادة النظر هذه على لسان أوباما بالذات في قمة العشرين في أستراليا.
نحن إذن أمام مفارقة غريبة: في نهاية المهلة المحددة لإبرام اتفاق نووي، يعلن الطرفان تمديدها سبعة أشهر إضافية لـ»إنضاج» الاتفاق. وفي الوقت الذي يعلن فيه كل من الرئيس الإيراني حسن روحاني وممثلو الدول الست المفاوضة حرصهما على الوصول إلى اتفاق، يعلن ممثلو ولي الفقيه تمسكهم بما يسميها هذا الأخير الخطوط الحمراء. أما الإدارة الأمريكية فتفعل كل ما يرضي إيران لتبقيها على طاولة التفاوض. ويتضمن ذلك السكوت عن عربدتها الإقليمية التي من المحتمل أنها سترتفع وتيرتها في الأشهر القادمة، بما يؤدي إلى «إقناع» الدول الست بالقبول بالدور الامبريالي الاقليمي لإيران مقابل تخلص بطيء من برنامجها النووي. بطيء بما يكفي لنظام دمشق الكيماوي تحقيق بعض الانتصارات العسكرية كما يأمل، وبمساعدة من ممثل الأمم المتحدة دي ميستورا الذي يتكفل بترجمة ذلك إلى انتصارات سياسية.
في الإطار ذاته من استماتة أوباما في إرضاء إيران، رأينا كيف انتهت زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى اسطنبول. لم يحصل الرجل على أي تنازل من الرئيس التركي أردوغان بخصوص فتح قاعدة إنجرلك لاستخدامها في شن الغارات الجوية على مواقع داعش في سوريا. وسبب هذا التعنت التركي أمام حليفها الأمريكي هو أن أوباما يرفض الطلبات التركية المتعلقة باستهداف نظام الأسد بموازاة استهداف قوات داعش.
رضي «الأخ الأكبر» الأمريكي بهذا الإذلال من القيادة التركية، للحفاظ على ذله الأصلي المستطاب في خطب ود طهران.
الأشهر السبعة القادمة ستشهد مزيداً من التمدد الإقليمي الإيراني، وربما تحرشاً بإسرائيل بواسطة أداتها حزب الله. لكن الثمن الأكبر سيدفعه كالعادة السوريون، وكانت إشارة البداية من الرقة الجريحة.
(صحيفة القدس العربي)