الأصوات المتشائمة والمسارعة إلى الاستسلام الكسول وفتح المناحات والمراثي قرأت تبرئة مبارك ورجالاته كعلامة نهائية غير قابلة للنقض للربيع العربي الذي يتحول عنها إلى كذبة كبيرة تسهل التحليل بنظرية المؤامرة. وهي تنظر إلى ما يجري في تونس كعلامة إضافية ستثبت نظرية الفناء النهائي لهذا الربيع. والمؤسف أن المتابع لهذا الخطاب يجد نوعا من اللذة المازوشية تتمتع بالهزيمة كما لو أن هذا الربيع قد قام ضدها هي بالذات رغم أنها كانت من ضحايا النظام العربي الفاسد والمفسد.
بعيدا عن الظرفية والحادثة يذكرنا هذا بمناحات ما بعد هزيمة 67 العسكرية حين انبرى لفيف كبير من المثقفين والمحللين إلى تثبيط العزائم وكسر الإرادات ونسبة الهزيمة إلى خلل بنائي في تركيبة المجتمع العربي وعجزه العضوي عن الخروج من رد الفعل إلى الفعل. وانتشر أدب الهزيمة والخنوع حتى بداية الربيع العربي الذي كانت فاتحته انتصارا على هذه الروح المهزومة نفسها. والآن عاد خطاب التثبيط المهزوم دون أن يطرح الأسئلة الجوهرية عن الأسباب والمآلات؟ هذا الخطاب المهزوم لم ينتبه ولا يريد إلى أن الشارع العربي سخر من الأمر برمته وأعلن النفير في تونس.
السؤال الذي يخامر الساعين إلى الفهم دون نواح كسول هو لماذا تمت تبرئة مبارك ورجال نظامه بهذه الطريقة الوقحة المستفزة؟ وهل يحتاج نظام السيسي الآن إلى هذه البراءة؟
للنظام المصري منذ زمن محمد علي باشا وعصر التنظيمات التركي خصوصية هامة تميزه عن بقية الأنظمة العربية هي المكانة الخاصة التي تحظى بها المؤسسة العسكرية في إدارة الدولة والاطلاع على مجريات الحكم والمشاركة فيه بنسب ما فتئت تزداد حضورا إلى حين ثورة 52 حين تملك العسكر زمام الأمور ومع تقدم الزمن وبقاء العسكر في السلطة ورغم الحروب مع الكيان الصهيوني إلا أن الجيش تحول إلى مجموعة من الأثرياء المالكين لمقدرات الاقتصاد المصري.
في عصر مبارك تحول الجيش إلى طبقة كاملة المواصفات. أي طبقة اقتصادية مسلحة تسليحا ثقيلا، وتشتغل كبوابة متحكمة في مخارج ومداخل الدولة إذ لا يمكن الدخول في الاقتصاد المصري للمصرين أو للمستثمرين الأجانب إلا عبر بوابة الجيش إما بالرشى أو بالقانون المفصل من قبلهم وعلى قياسهم.
الترابط بين العسكر والاقتصاد حوَّل الدولة المصرية إلى بؤرة فساد وخلق طبقة المحرومين الواسعة التي نفست عن غضبها وقهرها في ثورة يناير 2011.
ثورة يناير ثورة المحرومين
عمق ثورة يناير كان ثورة اجتماعية لفقراء مصر ضد طبقة أثرياء مسلحين وطبعا مع حاشية أخرى من الأثرياء لا يمكنها إلا أن تقبل بهيمنة العسكر مصطنعة دوما تاريخا عسكريا تحت بطل الضربة الجوية. لقد كشفت الثورة عمق الفقر والخصاصة والبؤس الاجتماعي المعشش في القاهرة ومدن مصر المختلفة وتبين أن المنظومة التي سادت تحت حكم عائلة مبارك العسكرية والمدنية قد أودت بالبلد إلى تهلكة لا يمكن النجاة منها إلا بتغيير جذري وعلى مدى بعيد.
لقد وقفت حكومة قنديل على الفاجعة وبدأت تحريك الثوابت وتغيير الدفة بما هدد في العمق نظام المصالح المحلية والدولية في مصر وبدأ أصدقاء نظام مبارك يرتعبون من انكسار منظومة بنوها بهدوء طيلة نصف قرن فتغيير وجهة التحالفات الدولية والانفتاح على شركاء جدد تعني فقدانهم لدور الوسيط المحلي لرأس مال عابر للقارات والحدود. وانكسار نظام السمسرة الذي ميز حكومات كثيرة تابعة في زمن العولمة العابرة للاقتصاديات الصغرى. لذلك تحركت الآلة القديمة بكل قوتها وأسقطت المسار الديمقراطي تحت جنازير الدبابات وما كان لأحد من شاغل وقتها إلا إنقاذ النظام القديم من احتمالات الديمقراطية الاجتماعية.
لماذا تحتاج هذه الآلة إلى مبارك؟
مبارك لم يعد ذا شأن وإن كان الكثير يعتقد أن الذي أطلق سراحه هو مبارك الابن قبل مبارك الأب. وهناك في تقديري سببان، الأول رمزي ويتمثل في رفع درجة الإحباط واليأس في صفوف المتحفزين لثورة ثانية والساعين إلى ترميم الصف الثوري من جديد مع الإخوان وبهم وهو اتجاه بدأ يعبر عن نفسه في مواقع كثيرة ويمكن أن يعطي أملا في الاستئناف. لذلك صار من الضروري الطعن في عزيمته وشل حركته نفسيا قبل شلها أمنيا وعسكريا.
والثاني هو أن نظام المصالح في غياب مبارك وخاصة في غياب ابنه جمال كثرت رؤوسه ويوشك أن ينفجر إلى كتل تضعفه بالصراعات الداخلية على مصالح تضيق باستمرار وانخرام هذا الصف أو اشتباك مكوناته يؤدي بالضرورة إلى كشف الغطاء عن الطبقة العسكرية المتخفية داخل شبكة رجال الأعمال. وهو الأمر الذي ينزع عنها كل شرعية أخلاقية عسكرية تتظاهر بها أمام شعب كلما ظهرت له هشاشة عسكره عزى نفسه بانتصار أكتوبر.
لذلك لا بد من رأس موحدة وذات كاريزما جاهزة ومحل ثقة من العسكر وليس أفضل من جمال مبارك ليقوم بهذا الدور في مرحلة أولى قد تتطور إلى ترشيح رئاسي بعد الاطمئنان على دفن المسار الثوري.
وهناك إلى السببين سبب ثالث يبدو لي ثانويا هو ما يقال أن ممولي النظام من عرب النفط يريدون استعادة صديقهم مبارك معززا مكرما وإكرام نزله في مسيرته نحو نهايته التي يمكن تطويلها بالطب الحديث فالدكتاتوريات لا تموت بسهولة. ولكن هذا السبب غير ذي تأثير في قرار البراءة لأن عرب النفط لا يحكمون نفطهم وإذا كانوا ساعدوا في أول الانقلاب فلأنهم مأمورون بذلك ولا قدرة لهم على الرفض وهم في وضع خضوع أبدي لمواصلة تمويل الانقلاب المصري وتخريب الربيع العربي حيث ما يراد له أن يفشل. خروج الشارع التونسي بشعارات الثورة يدل على أن الأمل لا يموت
هل سيعود بن علي كما عاد مبارك؟ طرح الشارع التونسي هذا السؤال بمجرد صدور الحكم بالبراءة. وقد أوجعت أحكام البراءة الصف الوطني المساند للثورة المصرية والذي كان تألم كثيرا عند ظهور نجيب ساويرس ممول انقلاب مصر إلى جانب حزب النداء الفائز بأغلبية برلمانية. في فترة ظهر فيها مال كثير فاسد في انتخابات تونس المختلفة. لقد تبيَّن مرة أخرى أن الصف الثوري بين البلدين واحد وأن صف النظام القديم في البلدين يتعاون ضد الأمل في الثورة والتغيير لذلك دفعت أحكام البراءة إلى التوجس والحذر فضلا عن الغضب المقهور مما يجري.
تخوّف الكثيرون من هذه الأحكام إذ أنها تعني احتمال تكرار الأمر في تونس إذا استحكم النظام القديم بمؤسسة الرئاسة. وارتفعت الخشية من فضيحة سياسية تعبث بما تبقى من شرف القضاء التونسي الذي لم تشهد له معجزات استقلال أو شموخ في تاريخه الطويل. فهو قضاء طيع ومخترق بالمال الفاسد وهو ميراث مغشوش. لكن بارقة الأمل جاءت من الشارع العميق الذي تحرك عند استشعار الخطر ورفع شعارات الثورة وسار معلنا حذره واستعداده لسباق المسافات الطويلة. وهنا يكمن الفرق بين شارع اللهفة على المغانم وشارع الصبر على المكاره. لقد قال الشارع التونسي ردا على أحكام البراءة أن الشارع العربي لن يموت.